ساحر جوارديولا الجديد.. ريان شرقي بين مطرقة النظام وسندان الفوضى
في كرة القدم الحديثة، لم تعد المهارة تضمن النجاح، خاصة داخل منظومة بيب جوارديولا، أحد مؤسسي الكرة الحديثة، والذي يقيس كل لاعب بقدراته التكتيكية قبل الفنية.
مع تألق ريان شرقي، يعود الجدل مجددًا حول استطاعة اللاعب المهاري فرض نفسه على تعقيدات جوارديولا التكتيكية، والتكيّف مع بيب ومعتقداته.
بين من أعاد تشكيل المنظومة ومن ذاب داخلها وفقد نفسه، يقف ريان شرقي اليوم عند مفترق طرق، وهو يتحسس خطواته الأولى مع بيب جوارديولا، الذي تألق معه أساطير اللعبة.
البداية من ميسي وليس رونالدينيو
عندما وصل بيب جوارديولا إلى برشلونة وتولى قيادة الفريق في 2008، رفض بقاء رونالدينيو، وبدأ يعتمد على ليونيل ميسي الذي لم يكن لاعبًا أساسيًا أو مؤثرًا قبل وصوله.
تطبيق نظام التيكي تاكا، والتمريرات المتبادلة السريعة، واللا مركزية بين اللاعبين، والاعتماد على أدوار مركبة لكل لاعب، كانت من سمات بيب جوارديولا.

وسط كل النظام الذي وضعه جوارديولا، كان هناك رجل يقوم بما يُسمى “الفوضى المنظمة”، وهو بكل تأكيد الأسطورة الأرجنتيني ليونيل ميسي.
في موسمه الأول مع بيب جوارديولا، لم يكن ليونيل ميسي هو الجناح الأيمن الذي اعتاده العالم. ربما كان على الورق، لكن داخل الملعب كان شيء آخر تمامًا.
برشلونة كان يضغط في مناطق الخصم، يستعيد الكرة بسرعة، ويختصر الطريق إلى المرمى، ليجد ميسي نفسه فجأة في أماكن أقرب للمرمى، وفي عمق الملعب، لا على الخط.
ميسي أصبح يسجل من كل وضع ممكن داخل منطقة الجزاء، بقدمه، برأسه، ومن مسافات أقرب مما اعتاد.
النتيجة كانت استثنائية بالأرقام: من أغسطس 2008 وحتى ديسمبر من العام نفسه، سجل الأرجنتيني 16 هدفًا في مختلف المسابقات، وهو أعلى معدل تهديفي له في تلك المرحلة من الموسم طوال مسيرته حتى ذلك التوقيت، رقم يعادل ما سجله في الموسم السابق بأكمله.

لم تكن المسألة تطورًا فرديًا فقط، بل نتاج خدعة تكتيكية محسوبة من جوارديولا، وبالتالي تعددت طرق التهديف لأن ميسي أصبح يستلم الكرة داخل منطقة الجزاء، وغالبًا دون رقابة مباشرة، في مشهد نادر على لاعب يُصنف جناحًا.
كان صامويل إيتو يتحول إلى جناح أيمن، يسحب المدافعين معه، ويترك ميسي وحيدًا بين قلبي الدفاع. بلغت الفكرة ذروتها في مايو 2009، أمام ريال مدريد في سانتياجو بيرنابيو، حين لعب ميسي كمهاجم وهمي، وانهار الريال في واحدة من أشهر ليالي الكلاسيكو، انتهت بسداسية تاريخية.
برشلونة واصل طريقه إلى نهائي دوري أبطال أوروبا 2009، وأمام مانشستر يونايتد، بعد أن افتتح إيتو التسجيل بعشر دقائق، جاء الهدف الثاني.
Lionel Messi 🆚 Manchester United, 2009. #UCLfinal pic.twitter.com/MjySBDYWc4
— UEFA Champions League (@ChampionsLeague) May 28, 2024
ذلك الهدف لم يكن هدفًا عاديًا فحسب، بل كملخص حي لما فعله جوارديولا بفريقه: ميسي في العمق كالرعب لأي فريق، يخلق الفوضى المنظمة، ويسجل.
ذلك الأمر لم ينجح في الموسم التالي مع إبراهيموفيتش، الذي رحل بعد الموسم 2010-2011، ومن ثم استمر ميسي الرجل الذي يفعل كل شيء داخل منظومة جوارديولا، ويجمع بين مهارته الفطرية والذكاء التكتيكي الذي يخدم المنظومة الأشمل في العالم خلال ذلك الوقت.
أرقام ميسي مع بيب جوارديولا
| المباريات | الأهداف | التمريرات الحاسمة |
|---|---|---|
| 219 | 211 | 94 |
روبن ينصهر مع نظام جوارديولا
في تصريح سابق للجناح الهولندي الأسطوري آريين روبن، قال: “جوارديولا أفضل مدرب تعاملت معه في مسيرتي، إنه مهووس بكرة القدم، يوقظني في الثالثة فجرًا ليناقشني أفكارًا تكتيكية جديدة”.
مع روبن في بايرن ميونخ، خاض جوارديولا اختبارًا مختلفًا مع لاعب مهاري رأس ماله هو الاستلام على اليمين، المراوغة، والتسديدة باليسرى.
ورغم ذلك، لم يحاول بيب كسر هذه الفكرة بقدر ما حاول تطويقها. داخل نظام صارم يعتمد على الاستحواذ والتمركز، مُنح روبن حرية مشروطة، محصورة في الثلث الأخير، حيث يُسمح له بكسر القواعد طالما لا يفعل ذلك في مناطق البناء.
Robben cutting inside 🤤#UCL pic.twitter.com/ieDJewoZwz
— UEFA Champions League (@ChampionsLeague) April 2, 2024
تحركات روبن أصبحت أقل قليلًا لكنها أكثر حسمًا، ولم يتحول إلى لاعب جماعي تقليدي، بل جعله سلاحًا تكتيكيًا يُستخدم في اللحظة المناسبة.
كان بايرن ميونخ يحاول تجميع اللعب في وسط الملعب من خلال فتح المساحة للاعب الهولندي، ومن ثم التمرير له ليطلق العنان لقدمه اليسرى التي كانت كالنار في هشيم الخصوم.
أرقام روبن مع جوارديولا
| المباريات | الأهداف | التمريرات الحاسمة |
|---|---|---|
| 97 | 47 | 30 |
ضحايا بيب في مانشستر سيتي
العديد من الصفقات التي تعاقد معها بيب جوارديولا في مانشستر سيتي، ربما كانت البداية بـ ليروي ساني، مرورًا برياض محرز، وأخيرًا جاك جريليتش.
الثلاثي اختلف من حيث الانصهار والتعود على طريقة لعب بيب جوارديولا مع مانشستر سيتي، فكان ليروي ساني أول الضحايا.
النجم الألماني لم يتمكن من تقديم نفس المستوى الذي كان عليه في شالكة، وكان لاعبًا شابًا يتألق ضد ريال مدريد في دوري أبطال أوروبا ويلفت أنظار الجميع.
Sané 🆚 Modrić#UCL pic.twitter.com/17uCrcthQX
— UEFA Champions League (@ChampionsLeague) August 5, 2024
مع جوارديولا، عانى ساني في اختلاف المراكز التي لعب فيها، والاحتفاظ المبالغ فيه بالكرة، بالإضافة للمبالغة أيضًا في المراوغة، وهو ما لم يحبه جوارديولا، لأنه لا يوجد إلا ميسي واحد فقط.
ساني كان على أعتاب بايرن ميونخ في صيف 2019، ولكن إصابته بقطع في الرباط الصليبي أجلت رحيله لمدة عام.
خرج ساني من حسابات جوارديولا، رغم بدايته الجيدة، ومع مرور الوقت لم يتكيف مع تكتيكات وأدوار الفيلسوف المختلة.

أرقام ساني مع جوارديولا
| المباريات | الأهداف | التمريرات الحاسمة |
|---|---|---|
| 135 | 39 | 44 |
اللاعب الثاني كان رياض محرز، الذي انضم من ليستر سيتي وكان واحدًا من أفضل اللاعبين في أوروبا، وحقق الدوري الإعجازي مع ثعالب ملعب كينج باور.
محرز لم يكن لاعبًا صنعه جوارديولا، بل موهبة جاهزة وصلت إلى مانشستر سيتي في الذروة، لاعب يعتمد على الارتجال والمراوغة وكسر الإيقاع، لكن داخل منظومة بيب، لم تعد تلك المساحة مفتوحة كما اعتاد.
Mahrez magic 🇩🇿🪄 pic.twitter.com/68qJaoPlzs
— Manchester City (@ManCity) August 22, 2025
محرز اضطر إلى التقليل من المخاطرة والاحتفاظ بالكرة، وتعلم متى يراوغ ومتى يمرر، ومتى يضطر للتحرك بدون كرة ليخدم المنظومة بشكل أكبر.
لم يصبح جناحًا حرًا كما كان، ولم يكن نجم الفريق الأول مثلما كان في ليستر سيتي، لكنه نجح في التأثير، وكان أحد مفاتيح مانشستر سيتي تحت قيادة بيب جوارديولا قبل رحيله.
مع مرور الوقت احتاج محرز للتحرر أكثر، فوافق على المغادرة إلى أهلي جدة، خاصة وأنه حقق كل شيء مع مانشستر سيتي، وبالتالي كانت الفترة ناجحة، بالحصول على ألقاب، وتحقيق أرقام جيدة، ولكنه لم يعد قادرًا على التنفس بحرية، فكان عليه استنشاق هواء دوري روشن.

أرقام رياض محرز مع جوارديولا
| المباريات | الأهداف | التمريرات الحاسمة |
|---|---|---|
| 236 | 78 | 59 |
اللاعب الثالث كان جاك جريليتش، الذي انضم من أستون فيلا في صفقة قياسية، وكان أحد أبرز المراوغين في الدوري الإنجليزي الممتاز مع الفيلانز، لكنه لم يكن كذلك في مانشستر سيتي.
يعود السبب لغياب الوعي التكتيكي لدى اللاعب في الأدوار الدفاعية، وكذلك التجانس مع بعض أفراد المنظومة، رغم أنه في موسم تحقيق الثلاثية كان يقدم أفضل مستوياته.
اللاعب الإنجليزي عانى وخسر المنافسة كثيرًا مع اللاعبين الذين يشاركون في مركزه، خاصة وأنه مع أستون فيلا، سواء مع المدرب دين سميث أو ستيفن جيرارد، كان يلعب كلاعب حر ما بين الجناح وصانع الألعاب.
A vital @JackGrealish strike 🤩 pic.twitter.com/Cvq3tSoD9J
— Manchester City (@ManCity) August 5, 2024
جاك كان المثال الأوضح على الصدام بين الموهبة الحرة ونظام جوارديولا الصارم. وجد نفسه داخل منظومة لا تعترف إلا بالفوضى المنظمة في الثلث الأخير.
مع مانشستر سيتي، لم يُطلب من جريليتش أن يكون صانع لعب، بل أداة للسيطرة، جناحًا “آمنًا” يحافظ على الاستحواذ أكثر مما يخاطر به، فتلاشت عفويته تدريجيًا، التي كان يتميز بها في فيلا بارك.
جريليش لم يفشل فنيًا، لكنه فشل في أن يكون اللاعب نفسه، والدليل أنه تألق في صفوف إيفرتون هذا الموسم من أول مباراة.
أرقام جريليتش مع جوارديولا
| المباريات | الأهداف | التمريرات الحاسمة |
|---|---|---|
| 157 | 17 | 23 |
ريان شرقي .. الموهبة تفرض نفسها
ريان شرقي لا يبدو كموهبة متمردة على النظام بقدر ما هو لاعب مرن يعرف كيف يحافظ على التوازن دون أن يتخلى عن مهارته الفطرية.
لاعب يملك القدرة على اللعب داخل الإطار التكتيكي، لكنه في الوقت نفسه لا يفقد حس الإبداع أو الجرأة في الثلث الأخير، خاصة وأنه قابل للتكيف بالنظر لأنه لا يزال 22 عامًا.
توقيت وصول شرقي إلى منظومة جوارديولا يبدو مثاليًا؛ فبيب نفسه لم يعد ذلك المدرب المتصلب في معتقداته الأولى، بل أصبح أكثر استعدادًا للتنازل عن بعض أفكاره الصارمة لصالح الفعالية، مثلما فعل بالتعاقد مع هالاند والاعتماد على المهاجم الصريح، وانضمام حارس مرمى يتميز بالتصديات أكثر من بناء اللعب.

كذلك وجود مهاجم بحجم إيرلينج هالاند يفرض على المنظومة حلولًا مباشرة، إلى جانب لاعبين متعطشين لإثبات الذات مثل فيل فودين ودوكو، يخلق بيئة تسمح للاعب مثل شرقي بأن يكون عنصر ربط وليس عبئًا تكتيكيًا.
والأهم أن شرقي لا يُحبس في قالب واحد؛ فهو قادر على اللعب في أكثر من مركز خلف المهاجم، كصانع لعب، أو جناح داخلي، أو حتى لاعب حر بين الخطوط، وهي المرونة التي قد تجعله أقرب للنجاح في منظومة بيب جوارديولا، التي من الصعب على أي لاعب تقبلها.
مع كل هذه المميزات، يظل الطريق أمام ريان شرقي محفوفًا بالمخاطر. مهارته الفطرية وحدها لا تكفي في منظومة جوارديولا، حيث الأخطاء الصغيرة تحت الضغط تتحول سريعًا إلى عقبات تكتيكية.
Stunning.@rayan_cherki ✨ pic.twitter.com/JQ9Pixdf6B
— Manchester City (@ManCity) December 18, 2025
جوارديولا مستعد للموت من أجل فكرته، ولا يتسامح مع التهور أو التسرع في اتخاذ القرار، حتى من أعظم المواهب، ولا يمكن نسيان ما حدث مع زلاتان إبراهيموفيتش في برشلونة.
ريان شرقي أمام اختبار مزدوج الآن، ما بين إثبات نفسه كلاعب يضيف قيمة حقيقية للفريق، وفي نفس الوقت عدم السماح لنزعة الفردية أن تصبح عبئًا على خطة بيب.
أرقام ريان شرقي مع جوارديولا
| المباريات | الأهداف | التمريرات الحاسمة |
|---|---|---|
| 22 | 5 | 8 |