هالاند وأسطورة الفايكنج.. هل بُعثت روح “أودين” من جديد لتسكن القميص رقم 9؟
منذ آلاف السنين، كانت أساطير الشمال تحكي عن إله ذي عينٍ واحدة يدعى أودين، ضحى بعينه ونصف رؤيته ليحصل على بصيرةٍ لا يملكها بشر، واليوم، وبعد عشرة قرون كاملة من أُفول نيران الفايكنج، يعود ظل أودين إلى الواجهة من جديد، سيد الآلهة، رمز الحماسة والغضب، ذو العين الواحدة، بعث من جديد، لكن في جسد رياضي أشقر، يحمل اسمًا نرويجيًا خالصًا جعل العالم كله يردده كواحد من الأساطير الحية على العشب الأخضر، إنه مهاجم مانشستر سيتي إرلينج هالاند.
في كل مرة يدخل فيها هالاند المستطيل الأخضر، لا يبدو الأمر وكأنه مباراة كرة قدم؛ بل غارة نوردية جديدة يقودها أسلافه بشراسة وغضب، تتحول فيها دفاعات الخصوم إلى قرى وديعة على سواحل إنجلترا، ويقف حراس المرمى أمامه كما كان يقف الملوك في العصور الغابرة أمام سيوف الفايكنج، بقلوبٍ مرتجفة وأعينٍ تترقّب ضربته التالية.
الآلة البشرية.. أرقام لا ترحم
أمام منتخب إسرائيل، كتب إرلينج هالاند فصلًا جديدًا من ملحمته الشخصية، بعدما سجل “هاتريك” جديدًا رفع به رصيده إلى 51 هدفًا دوليًا في 46 مباراة فقط، ليصبح أسرع لاعب في التاريخ يصل إلى هذا الرقم، متجاوزًا الكثير من أساطير كرة القدم.
وفي الموسم الحالي، لا يزال النرويجي يسير بوتيرة غير بشرية، بعدما سجّل 21 هدفًا وصنع 3 تمريرات حاسمة في 12 مباراة فقط مع ناديه ومنتخبه. إنه لا يسجّل الأهداف في شباك الخصوم، بل يغزوها؛ فكل كرة تقترب من قدميه تتحول إلى سهمٍ ذهبي ينغرس في مرمى الحراس، الذين باتوا يرونه في كوابيسهم قبل أن يواجهوه على أرضية الميدان.

سر الغريزة.. من ساحات القتال إلى منطقة الجزاء
يقول المؤرخون إن الفايكنج، أسلاف هالاند، لم يكونوا محاربين عاديين، بل كانوا يتبعون أساليب غامضة، فيدخلون المعارك في حالةٍ من الهيجان تُسمّى “غضب البيرسيركر”، يستمدونها من عشبةٍ سوداء تُعرف باسم “البنج الأسود”، تُفقدهم الإحساس بالألم وتدفعهم إلى المعركة بعيون زجاجية وقلوب لا تعرف الرحمة.
أما اليوم، فلا يحتاج إرلينج هالاند إلى تلك العشبة، فـ”بنجُه الأسود” أصبح أدرينالينه الطبيعي، الذي يستمده من نظرة الرعب التي تعتلي وجوه الحراس عند تسديده للكرة، فيقف بعد أن تسكن الكرة الشباك، فاتحًا ذراعيه بثقة مهيبة، وكأنه يقول للعالم: “ها أنا ذا.. حفيد الفايكنج الذي بُعث من جديد في ملاعب الساحرة المستديرة”.
ولِم لا؟.. فهو حين يركض نحو منطقة الجزاء، يبدو كأنه يستدعي أرواح أسلافه من أعماق المضيق النرويجي، فيتحرك بنفس الوعي الحربي التكتيكي الذي كان يميز محاربي الفايكنج في ساحات القتال، رافعًا شعار: “التحرك أولًا.. الهجوم بلا رحمة.. إصابة الهدف بدقةٍ قاتلة”.. ناقلًا ما كان يحدث في غارات أسلافه قديمًا إلى ملاعب العصر الحديث.
وعند الحديث عن التكتيك ومهاجمة المساحات، لا يمكنك أن تضرب المثل بأفضل من مهاجم السيتي في عصره الذهبي. إيرلينج هالاند مهاجم يحسن استخدام المساحات ويهاجمها بلا رحمة، كما كان يفعل أسلافه بسفن الأعداء. وكأن جيناتهم تبلورت لتكتب ملحمة جديدة من خلال أسطورة حية؛ فلا يبحث عن المرمى بل يشمّ رائحة الدم فيه، ويسعى ليفتك به كلما سنحت الفرصة، كأنه يرتدي القبعة ذات القرنين على المستطيل الأخضر.
من طقوس الفايكنج إلى نظام هالاند الغذائي
لم تأتِ قوة هالاند صدفة، بل لها سبب واضح وجليّ، وسر لم يعد خفيًا بعدما كشفه اللاعب نفسه في أحد التقارير المصوّرة على موقع Mirror.
فكما كان الفايكنج يتناولون “البنج الأسود” قبل المعارك، يتبع هالاند طقوسه الخاصة قبل كل مواجهة، يبدأ يومه بضوء الشمس في عينيه، كما لو أنه يستمد بركة أودين ذاته، ثم يتناول وجبته التي لا تشبه وجبات البشر، كأنها قربان نوردي يقدّمه لأسلافه طلبًا لبركات الآلهة.
يتناول هالاند الكبدة والقلب الحيواني الطازج ليغذي جسده بطاقة بدائية خالصة، ومع ما يقرب من 6000 سعرة حرارية يوميًا.. تتحول عضلاته إلى آلةٍ نوردية لا تعرف الصدأ.
ويقول في أحد تصريحاته: “أؤمن أن ما أضعه في جسدي يحدد من أكون في الملعب، فأنا أتناول ما يمنحني القوة، كما كان يفعل أجدادي في الماضي”.
وهكذا، يتجسد الرابط بين الماضي والحاضر في جسدٍ يعيد تعريف معنى التفوق البشري والغريزة البدائية، التي حوّلها من رعبٍ في عيون أعداء الأمس إلى دهشةٍ في عيون حراس اليوم، يصيدهم واحدًا تلو الآخر بلا رحمة ولا شفقة.

أودين يُبعث من جديد في كرة القدم
في الميثولوجيا النوردية، ضحى أودين بعينه ليكسب الحكمة الأبدية، في برهانٍ على أن الكسب نتيجة التخلي، وأن بلوغ المجد لا يأتي إلا بعد تذوّق مرارة الفقد.
أما إرلينج هالاند، فيبدو أنه قرأ القصة ذاتها وأدرك الحقيقة التي جعلت من أودين أحكم الحكماء. لقد ضحى هو الآخر، لكن بشيء مختلف هذه المرة؛ فبدلًا من العين، ضحى هالاند بشيء أثمن في وقتنا الحالي، ألا وهو “راحته الشخصية ورفاهيته”، ليكرس نفسه للعمل الشاق والانضباط والتدريبات المكثفة طوال يومه.
فبفضل التزامه داخل الملعب وخارجه، بات يرى ما لا يراه المدافعون، فيتحرك قبل أن يفكروا، ويضرب قبل أن يلتقطوا أنفاسهم، عينه على الهدف، وعقله في المستقبل، كأنه يمتلك بصيرةً خارقة تجعله يسبق اللحظة بثوانٍ تكفي لكتابة التاريخ.
هالاند.. الإله الذي لا يرحم في المستطيل الأخضر
وكما كان أسلافه يستمدون قوتهم من الصيت والرعب الذي يبثّونه في قلوب أعداءهم قبل المعركة، فكان كفيلًا وحده بحسم المعركة قبل أن تبدأ، يبدو أن هالاند يسير على خطاهم اليوم، فما اكتسبه من سيط ونجاعة أمام المرمى، جعل أغلب الحراس عاجزين عن توقع ضرباته وحركاته داخل منطقة الجزاء، فيسجل تارة بالقدم، وتارة بالرأس، وتارة بشكل وحشيّ بعدما ينقض على الكرة ويركلها بأسفل حذائه وهو ملقى في الهواء، كأنه يُحلق نحو الهدف بطريقة فريدة لم يفعلها أحد قبله.
فعندما يصرخ عشاق مانشستر سيتي باسمه أو حين تناديه الجماهير العريضة لمنتخب النرويج “هالاند..هالاند”، تدبُ فيه حماسةً وقوةً تتخطى شكله البشري، بل يبدو النداء كأنه صدى من قرونٍ غابرة، يعود إلى جبال النرويج الثلجية، أو كرياح عاتية تهب على أشرعة مراكب الفايكنج الخشبية، كأنهم يستدعون روح محاربٍ قديمٍ يُحسن الفتك والقتال، وتغلب عليه الشراسة والقوة.
إنه إرلينج هالاند الإله ذو العين الواحدة في عالم الساحرة المستدير، لا يرحم حارسًا، لا يعرف التردد، ولا يرضى بغير النصر والتسجيل، ففي كل مرة يهز فيها الشباك، يعود العالم ليؤمن مجددًا أن أسطورة الفايكنج لم تمت بعد، وأن روح أودين عادت لتسكن جسد صاحب القميص رقم 9.