مونديال الـ “أندردوجز”.. تاريخ جديد ينتظر منتخبات “الظل” في كأس العالم 2026
في زمنٍ باتت فيه كرة القدم ميدانًا للعمالقة وأصحاب التاريخ العريق، كانت هناك دائمًا شعوبٌ صغيرة تحلم في الظل، ترفع أعينها نحو المونديال كما يرفع الطفل يده نحو نجمةٍ بعيدة، عشرات الملايين يصفّقون للمنتخبات الكبرى، لكن خلف الضجيج، كانت حكايات صامتة تُكتَب بعرق اللاعبين، وبإصرار أبناء جزرٍ لا تُرى على الخريطة إلا بصعوبة، ودولٍ تكافح يوميًا لأجل هوية وابتسامة وأمل.
وهناك، على أطراف عالم الكرة المزدحم، بعيدًا عن صخب الملاعب الأوروبية وأضواء أمريكا الجنوبية، كانت شعوبٌ تنسج حلمها بخيوطٍ رفيعة من الإيمان، لم يكن الطريق مفروشًا بالنجوم، بل بالمطبات والخيبات، وبالرحلات الطويلة التي تستنزف الجسد، وبملاعب ترابية وكراتٍ فقدت لونها؛ ومع ذلك، ظلّت تلك المنتخبات تتمسّك بحلمها، تتحدّى الواقع، وتؤمن بأن المستحيل قد ينحني يومًا أمام الإرادة.
تحقّقت معجزة التأهل لبطولة كأس العالم 2026 لخمسة منتخبات — الأردن، أوزبكستان، الرأس الأخضر، كوراساو، وهايتي — فيما تقف منتخبات أخرى مثل سورينام وكاليدونيا الجديدة وكوسوفو على حافة المجد، ومع توسيع البطولة إلى 48 منتخبًا، فُتحت الأبواب على مصراعيها أمام البلدان الصغيرة، التي اقتحمت المشهد العالمي ليس فقط بالنتائج، بل بالقصص التي تحمل قوة الحياة ذاتها.
حتى هذه اللحظة، ضمنت 42 دولة حضورها في النهائيات، فيما تبقى ستة مقاعد تُصارع عليها فرقٌ اعتادت أن تُعامل كأطراف، فإذا بها تكتب فصولًا جديدة من التاريخ، بدأ العد التنازلي للسفر إلى الولايات المتحدة مع مطلع يونيو، بينما ينتظر العالم شهر مارس ليعرف آخر من سيقف على مسرح الحلم.
الرأس الأخضر.. الأرخبيل الذي تمرّد على حجمه وقلب الموازين
على أطراف المحيط الأطلسي، يقف أرخبيل الرأس الأخضر كحبة رمل صغيرة في بحرٍ لا نهاية له، بلدٌ لا يمتلك دوريًا قادرًا على تغذية منتخب وطني، ولا يملك من السكان ما يكفي لملء مدرجٍ متوسط الحجم… ومع ذلك، كان القدر يخبئ له لحظة مجدٍ تفوق كل توقعات المحللين.

لأعوام طويلة، ظل اسم الرأس الأخضر يتردد في صفحات السياحة أكثر مما يظهر في صفحات الرياضة، اللاعبون المحترفون في المنتخب وُلد معظمهم خارج البلاد، وكأن مسقط الرأس لم يكن قادرًا على أن يمنحهم ما يمنحونه هم لها: فرصة للظهور، صوتًا يُسمع، وحلمًا يُروى.
لكن المدرب بيدرو ليتاو بريتو، بملامحه الهادئة وصلابة الداخل، نجح في جمع هؤلاء اللاعبين تحت راية واحدة، وبعث فيهم روحًا جعلتهم يؤمنون بأن السماء يمكن أن تمطر معجزات.
وفي لحظة صاعقة، ومن قلب التصفيات الأفريقية، أسقط الفريق منتخب الكاميرون — أحد عمالقة القارة — على أرضه وبين جماهيره، لم يكن ذلك انتصارًا فحسب؛ كان إعلان ميلاد جديد لبلد كان يُقال إنه يعيش خارج الخريطة الكروية.
ثم جاءت تلك اللقطة السريالية في ليبيا… كرة طويلة، تسديدة يائسة من منتصف الملعب تكاد تبدو محاولة بلا أمل، لكنها وجدت طريقها الغريب بين قدمي الحارس مراد الوحيشي، وكأن الكرة نفسها قررت أن تُغيّر مسار التاريخ.
وعندما فاز المنتخب بثلاثية نظيفة على إيسواتيني، لم يكن الأمر مجرد انتصار، كان مشهدًا يليق بالأفلام: دولة لا يزيد عدد سكانها عن 600 ألف نسمة — أقل من سكان مدينة أو عاصمة لدولة إفريقية أخرى — تصبح ثاني أصغر دولة في العالم من حيث المساحة تتأهل لكأس العالم، بعد أن كانت الأولى، قبل أن تحطم كوراساو جميع الأرقام القياسية بتأهلها.
كما وباتت كاب فيردي ثالث أصغر دولة من حيث عدد السكان بعد آيسلندا (340 ألف نسمة في 2018)، وكوراساو ( 157 ألفا و700 نسمة في 2026)؛ إنه الفوز الذي يجعل العالم يقف احترامًا، ويثبت أن الجغرافيا قد تكون صغيرة.. لكن القلب لا يقاس بالكيلومترات.
كوراساو.. جزيرة صغيرة تتمسّك بحلمٍ أكبر منها
في منتصف نوفمبر، كانت جزيرة كوراساو — تلك البقعة الكاريبية الهادئة — على وشك كتابة فصل لا يُنسى، جزيرة مساحتها لا تتجاوز 444 كيلومترًا مربعًا، يسكنها 157 ألفا و700 نسمة، وتُعد البيسبول رياضتها الأولى.

قد يبدو المشهد ساخرًا حين تعلم أن منتخب كرة القدم لم يخض أول مباراة رسمية له إلا عام 2011… ومع ذلك، واصلت الجزيرة الصغيرة الحلم، وكأنها ترفض أن تبقى على الهامش.
اعتمد المنتخب على لاعبين نشأوا في أوروبا، أنهكتهم رحلات الاحتراف وأغنتهم التجارب، ومع ذلك، بقيت كوراساو الوطن الذي يدعوهم فيعودون إليه، وفي المباراة الحاسمة أمام جامايكا، كان المطلوب نقطة واحدة فقط للتأهل.. لكن القدر يحب أن يختبر أعصاب الحالمين دائمًا.
في الدقيقة الأخيرة، كاد حكم المباراة أن يحتسب ركلة جزاء قد تنسف الحلم كله. صمتٌ ثقيل، لاعبو كوراساو يضعون أيديهم على رؤوسهم، والجماهير المحتشدة على أرض جامايكا تصرخ مطالبة بالحسم.
لكن الـVAR — الذي كثيرًا ما كان مثيرًا للجدل — أنصف الجزيرة هذه المرّة، أعاد الحكم النظر، وقرر أن جيريمي أنطونيس لعب الكرة بمهارة وشجاعة، لتنجو كوراساو من السقوط في اللحظة الأخيرة.
المدرب ديك أدفوكات، أحد أشهر المدربين الهولنديين، لم يتمكن من حضور اللقاء بسبب ظروف عائلية، فحمل مساعده كور بوت العبء كله، وقاد الفريق نحو التاريخ.
وفي اليوم التالي، حين اتصل بأدفوكات، كانت الجزيرة لا تزال تهتف وتغني.. فالليلة التي ينتصر فيها حلمٌ صغير، لا تنتهي مع شروق الشمس.
هايتي.. إنجاز يخرج من قلب الألم
إذا كانت كرة القدم تمنح العالم لحظات فرح، فإن قصة هايتي هي الدليل على أنها تمنح أيضًا شيئًا أثمن: الأمل.
فهايتي، التي تألقت في مونديال 1974 باسم المهاجم الراحل إيمانويل سانون، تعيش اليوم واقعًا مختلفًا تمامًا. البلاد مثقلة بالعنف، منذ عام 2021.
العاصمة بورت أوبرنس تُسيطر عليها العصابات، والملاعب أغلقت أبوابها منذ مارس 2024.. في بلدٍ لا يجد حتى الهدوء، جاءت كرة القدم لتقدّم لحظة تنفّس.
اضطر المنتخب لخوض جميع مبارياته “البيتية” في كوراساو، وكأن القدر جمع بين بلدين صغيرين يبحثان عن الضوء، وبفضل المدرب سيباستيان مينييه، تحوّل الملعب المؤقت إلى حصن دفاعي لا تهتز شباكه.
وحين تغلّب الفريق على نيكاراغوا بثنائية، وقف اللاعبون بعد المباراة في دائرة صغيرة، ينظرون إلى هواتفهم، يراقبون نتيجة هندوراس والسلفادور، وكل منهم يحمل قلبًا يخفق كجناح طائر.
ثم جاء الخبر.. وتأهلت هايتي، لم تكن مجرد لحظة انتصار، بل لحظة علاج. لحظة جعلت بلدًا يعيش في الألم يبتسم من جديد، ولو لبضع ساعات.
المثير للدهشة أن مدرب منتخب هايتي، الفرنسي سيباستيان مينو، لم يسبق له أن دخل البلاد قبل 18 شهرًا، أي بعد تعيينه رسميًا، ويُدير المباريات عن بُعد.
أوزبكستان.. ثمانية فصول من الألم قبل أن تفتح أبواب الفرح
تاريخ أوزبكستان مع تصفيات كأس العالم طويل ومليء بالخيبات. سبع محاولات، سبع طرق مسدودة، سبع مرات وقف فيها الجمهور بين الأمل والانكسار، لكن في المحاولة الثامنة، بدأت القصة تتغير.

انتزع المنتخب تعادلًا سلبيًا مهمًا أمام الإمارات، ثم عاد إلى طشقند، حيث امتلأت المدرجات بجموعٍ كانت تنتظر هذه اللحظة منذ عقود؛ وبثلاثية نظيفة في شباك قطر، انطلقت الأفراح في كل مكان، وكتب “الذئاب البيضاء” فصلًا جديدًا من تاريخهم.
هدف عزيزبك تورجونبوييف الصاروخي كان لحظة ستظل محفورة، لكن ما خطف الأضواء حقًا كان المشهد الذي أعقب المباراة: الرئيس شوكت ميرزيوييف يقرر إهداء اللاعبين سيارات كهربائية فاخرة، في لفتة تؤكد حجم الإنجاز.
لكن كرة القدم لا تمنح الفرح دون مفارقات.. فبعد أربعة أشهر فقط، تم استبدال المدرب تيمور كابادزي — مهندس التأهل — بالإيطالي فابيو كانافارو؛ عاد كابادزي إلى دور المساعد، وكأن القدر يقول: “حتى في لحظات المجد.. ثمة صفحات لا تُكتب كما نريد”.
الأردن.. الحلم الذي عاند الزمن ثم تحقّق
في الأردن، تمتزج كرة القدم بالحياة اليومية، بالمدارس، بالأحياء الضيقة، بالمدرجات التي تُرفرف فوقها الأعلام مثل قلوبٍ معلّقة بالأمل؛ منذ سنوات، اقترب الأردن من المونديال في 2014، لكن أوروجواي أغلقت الباب في وجه الحلم.

توالى على تدريب المنتخب أسماء عالمية، لكن النجاح جاء هذه المرة على يد مدربين عربيين: حسين عموتة وجمال سلامي، اللذين أعادا صياغة روح المنتخب.
وفي المباراة المصيرية أمام عُمان، لعب علي علوان مباراة العمر، فسجل هاتريك تاريخيًا أعاد تعريف حدود الممكن، وخطف موسى التعمري الأضواء بمهاراته الاستثنائية، وكأنه يقول للعالم: “الأردن هنا… ولن يرحل.”
وتأهل الأردن لأول مرة في تاريخه، لتخرج الاحتفالات في عمّان والسلط وإربد والزرقاء، في مشهد يليق ببلدٍ أحب كرة القدم.. فبادلته الحب أخيرًا.
وبجانب هذا الإنجاز، تأهلت قطر بمجهودها وحلّت بنما ضيفةً من جديد بعد غياب ثمانية أعوام، ليكتمل مشهد المفاجآت في منطقة تزدحم بالحكايات.
فرصٌ أخرى لمنتخبات الظل.. حين ينهض الحلم لمواجهة التاريخ
في زحمة الأضواء التي تتجه دومًا نحو العمالقة، تنبعث من الهامش قصصٌ صغيرة، لكنها مشحونة بالعزم والإصرار، قصصٌ تأبى أن تُدفن تحت ثقل التوقعات. فبينما ينشغل العالم بترتيب القوى الكروية التقليدية، تقاتل ستة منتخبات من دول نامية في زوايا الأرض الأربعة من أجل حلم قد لا يتكرر.. حلم الوصول إلى كأس العالم.
العراق.. هدف متأخر يهزم الخوف
في ليلة مشحونة بالتوتر في البصرة، كانت لحظات المباراة الأخيرة تنساب ببطء، وكأن الزمن نفسه يحبس أنفاسه. حتى جاءت الدقيقة 73 لتفتح الباب أمام معجزة صغيرة. ركلة جزاء حملت معها ثقل أمة كاملة، ومعها أمل الملايين. سكنت الكرة الشباك، وانتزع العراق فوزًا دراميًا على الإمارات بنتيجة 2–1.

لم يكن مجرد تأهل محتمل، بل كان إعلانًا جديدًا بأن المنتخب الذي كثيرًا ما عانى بين الأزمات والحروب ما زال قادرًا على كتابة فرحه الخاص فوق المستطيل الأخضر.
سورينام.. نجاة في الدقيقة 93
كانت الرحلة تبدو وكأنها انتهت. خسارة بثلاثية أمام جواتيمالا خارج الأرض دمّرت معنويات اللاعبين، وتركتهم على حافة الوداع. لكن كرة القدم، بطبعها الماكر الجميل، تُحب أن تترك باب الأمل مواربًا حتى اللحظة الأخيرة.
وفي الدقيقة 93 تحوّل كل شيء، ضربة رأس خاطئة من المدافع نيكولاس سامايوا، هدف عكسي لا يُصدق، لكنه كان كافيًا لفتح نافذة جديدة من الضوء. هكذا عادت سورينام — المستعمرة الهولندية السابقة — إلى خريطة التصفيات، بينما كان لاعبونها ينظرون إلى السماء وكأنهم يشكرون القدر على هذه الهدية غير المتوقعة.
الكونجو الديمقراطية.. البقاء بعد معركة ترجيحية مرهقة
في مواجهة نيجيريا المرشحة الكبرى، لم يملك لاعبو جمهورية الكونغو الديمقراطية سوى الشجاعة، كانت مباراة أشبه بمعركة نفسية، انتهت بركلات ترجيح تسببت في انهيار الأعصاب.
صمد الكونغوليون، وتقدموا خطوة نحو التاريخ، فيما لم يستطع المدرب إريك تشيلي تقبّل ما اعتبره “نهاية قاسية”، ليذهب في انفعاله إلى اتهام الخصوم بممارسات “الشعوذة”، ومهما كانت الرواية، الحقيقة الثابتة هي أن الكونغو عبرت.. عبرت بقلوبٍ تدقّ كطبول الغابة.
بوليفيا.. أمل رغم الأرقام القاسية
ستة انتصارات فقط من أصل 18 مباراة، وأهداف دخلت مرماها أكثر بكثير مما سجلته، حيث نجحوا في زيارة شباك الخصوم 17 مرة، بينما استقبلت شباكهم 35 هدفًا، ورغم ذلك، لا تزال بوليفيا في السباق، في بلد يتنفس سكانه كرة القدم كما يتنفسون هواء المرتفعات، لا يحتاج الحلم سوى نافذة ضيقة ليعبر.
ومع كل مباراة، يشعر البوليفيون بأن معجزة صغيرة قد تكون قيد التكوين، رغم أن كل المؤشرات تقول العكس.
كاليدونيا الجديدة وجامايكا.. أحلام من أقاصي الأرض
في جنوب المحيط الهادئ، حيث تمتزج مياه اللازورد بالسماء، لا تزال كاليدونيا الجديدة تتمسك بحلم المونديال، رغم تواضع إمكانياتها.
وفي الكاريبي، تعيش جامايكا حالة توتر جميلة… فبين قوة الخصوم وضغط الجماهير، ما زال “الريجي بويز” يؤمنون بأن التأهل ليس حلمًا بعيدًا، بل رحلة مستمرة نحو المجد.
كوسوفو ومقدونيا الشمالية.. تحدي أوروبا القاسية
في أوروبا، حيث المنافسة شرسة بلا رحمة، تقاتل دولتان صغيرتان من البلقان — كوسوفو ومقدونيا الشمالية — ضد جغرافيا وسياسة وتاريخ، وضد منتخبات أكبر منها بكثير، لكن في كرة القدم، القلب قد ينتصر على الحجم، والحلم قد ينتصر على المنطق.
وفي النهاية، يبقى الحلم أكبر من الأسماء، هذه المنتخبات ليست مجرد فرق تسعى لتأهل تاريخي، بل هي قصص بشرية تُكتب بالعرق والدموع والإصرار؛ قصص تُذكر العالم بأن كرة القدم لا تعترف بالحسابات، وأن الأحلام الصغيرة تستطيع، أحيانًا، أن تزيح الجبال من طريقها.