التكتيك وحده لا يكفي.. كيف كشف عمر مرموش الوجه الآخر لبيب جوارديولا؟
في كرة القدم، لا يُعدّ التوقيت في حد ذاته هو العامل الحاسم في مسيرة اللاعب، بل تكمن الأهمية الحقيقية في كيفية التعامل مع هذا التوقيت: كيف يحافظ اللاعب على اتزانه؟ كيف يواجه الضغوط؟ وكيف يقرأ التحولات داخل فريقه وخارجه؟ قد يظهر اللاعب في لحظة ما كنجمٍ لا يُمس، يقدّم أداءً استثنائيًا، ويغيّر ملامح المباريات، ويحتل العناوين الرئيسية في الصحف، لكن تلك القمة قد تكون هشة؛ فخطأ واحد في لحظة حساسة، أو سوء تقدير، أو عدم استيعاب لمرحلة جديدة داخل الفريق، قد يحوّل هذا الصعود إلى منعطف حاد يقلب مسار مسيرته بالكامل.
وهذا بالضبط ما يمكن ملاحظته هذا الموسم خلف أبواب مانشستر سيتي، حيث يعيش الفريق أحد أفضل فتراته من ناحية النتائج والتجانس والعودة القوية إلى سباق المنافسة، ومع ذلك، فإن هذا الازدهار الجماعي يقابله في المقابل تراجع فردي واضح لدى نجم الفريق في الموسم الماضي: عمر مرموش.
فبعد أن كانا عنصر أساسي في منظومة الفريق، وصنع الفارق في كثير من المحطات خلال الموسم السابق، يجد نفسه الآن في وضعية غير مألوفة: دقائق لعب أقل، أدوار غير واضحة، وتراجع في المركز داخل التشكيلة الأساسية، وعلى الرغم من أن هذا التغيير يبدو صادمًا ومفاجئًا لكثير من جماهير النادي، فإن بيب جوارديولا لا يرى فيه شيئًا غريبًا أو استثنائيًا، بالنسبة له، هذا مجرد امتداد لطريقة عمل لطالما اتّبعها.

عدم الإيمان بالثبات.. فلسفة جوارديولا لا تتغير
جوارديولا — كما يصفه المحيطون به — يمتلك قدرة خارقة على بناء فريق هو الأقرب إلى الكمال: منظومة مرنة، لاعبين مطورين لأقصى حد، وقدرة على صناعة نسخ جديدة من فريقه في كل موسم، لكنه في الوقت ذاته، وربما دون أن يتعمّد، يمكنه أن يُربك لاعبًا أو يُضعف ثقته بنفسه بسبب فلسفته القائمة على عدم الإيمان بالثبات، فبيب لا يعترف بما يسمى “الاستقرار الطويل” في التشكيلة أو “المراكز المحجوزة”، هو دائم الحركة، دائم التغيير، دائم البحث عن صيغة أكثر كفاءة لو كان ذلك على حساب لاعب كان نجمًا قبل أشهر قليلة.
هذه المقاربة، وإن كانت تصنع فريقًا تنافسيًا لا يتوقف عن التطور، إلا أنها تخلق أيضًا بيئة يضطر فيها اللاعب للتعامل مع التوقيت بذكاء ومرونة، فإما أن يتأقلم مع تقلبات جوارديولا، وإما أن يجد نفسه فجأة خارج الصورة، مهما كان اسمه أو ما قدّمه في السابق، وبذلك، يثبت مانشستر سيتي هذا الموسم أن المنظومة الجماعية لا تعني بالضرورة استقرارًا فرديًا، وأن التعامل مع التحولات هو ما يحدد مصير اللاعبين داخل منظومة بيب المعقدة.

فلسفة “عدم الاكتفاء” مهما كان النجوم متألقين
يبدو أن جوارديولا لا يعرف معنى الاكتفاء، حتى وهو يمتلك نخبة من أفضل اللاعبين في العالم، يظل يبحث باستمرار عن الموهبة التي لم تُكتشف بعد، اللاعب القادر على تقديم لمسة لم يسبق لأحد أن قدّمها، أو كتابة سطر خارج النسق التقليدي للفريق، هذه الرغبة الدائمة في التجديد ليست مجرد ترفٍ تدريبي، بل جزء أصيل من شخصيته وفلسفته؛ فهو يؤمن بأن الفريق الذي يتوقف عن التطور يبدأ فورًا في التراجع، مهما كانت النجوم التي يحتويها، في نظره، النجاح ليس حالة تُحفظ، بل حركة مستمرة يجب دفعها إلى الأمام بلا توقف.
لكن هنا تحديدًا تنشأ المشكلة الكبرى، التي تكمن في الوجه الأخر لبيب، فهذه الفلسفة التي تصنع ما يشبه “الجحيم التنافسي” داخل الفريق، وتضمن بقاء كل لاعب في أعلى درجات الجاهزية، تترك أثرًا نفسيًا قاسيًا على العديد من اللاعبين، خاصة أولئك الذين قدموا مواسم استثنائية وظنّوا أنهم باتوا عناصر لا تمس، ففي منظومة جوارديولا مع مانشستر سيتي، لا يوجد لاعب مضمون، ولا مركز محجوز، ولا اسم يمكن أن يظل أساسيًا مهما فعل، الجميع تحت الاختبار دائمًا، والجميع مهدد بفقدان مكانه في أي لحظة، وهنا يجد اللاعب نفسه بين خيارين: إما التكيف مع هذا الضغط الهائل، أو السقوط في هوة الشك والتراجع، حتى لو كان قبل شهور قليلة أحد أبرز نجوم الفريق.
النجوم في مانشستر يعيشون تحت تهديد السيف
النجوم في مانشستر سيتي لا يعيشون حالة من الأمان، بل يعيشون تحت سيفٍ مرفوع دائمًا فوق رؤوسهم، فمهما بلغ اللاعب من تألق، ومهما كانت قيمته داخل الفريق، يظل مهددًا بفقدان مكانه في أي لحظة، عمر مرموش، الذي كان أحد أبرز نجوم الموسم الماضي، وجد نفسه فجأة خارج التشكيلة الأساسية، وفيل فودين، الذي كان يُصنَّف في فترات عديدة كأفضل لاعب إنجليزي في جيله، مرّ هو الآخر بمحطات طويلة من الجلوس على مقاعد البدلاء، أما جيمس ترافورد، الذي رآه الكثيرون مستقبل النادي في مركزه، فقد اختفى هو الآخر عن المشهد دون تفسير واضح أو معلن.
هذا ليس أمرًا عابرًا أو نتاج صدفة، بل هو جزء من منهج واضح يطبق داخل الفريق: “أريدك جاهزًا دائمًا.. لكنّي لن أعدك بأي شيء.” جوارديولا يريد لاعبيه في أقصى مستوى من التركيز والتنافس، لكنه لا يمنحهم شعورًا بالاستقرار أو ضمانًا بالاستمرار أساسياً، إنها بيئة تُبقي اللاعبين متحفزين دائمًا، لكنها في نفس الوقت تحمل قدرًا كبيرًا من الضغط النفسي.
وبينما قد تنجح هذه الفلسفة مع لاعبين يمتلكون شخصية قوية، وقدرة على امتصاص الضغط، والتعامل مع التقلبات بثبات، إلا أنها قد تتحطم أمام آخرين يحتاجون إلى دعم نفسي، وإحساس بالأمان، ومساحة للنمو دون خوف دائم من الاستبعاد، وهنا يصبح الفارق ليس في جودة اللاعبين… بل في قدرتهم على تحمّل الحياة تحت هذا السيف.
ترافورد.. من أعظم حراس التشامبيونشيب إلى “ضحية الوعود المكسورة”
قبل أن يرتدي جيمس ترافورد قميص مانشستر سيتي، كان يُعامل في بيرنلي كأيقونة حقيقية وحارس لا يُصدّق، أرقامه هناك تحدثت عنه بوضوح غير قابل للجدل: 45 مباراة لعبها، استقبل خلالها 16 هدفًا فقط، وخرج بـ 29 مباراة بشباك نظيفة — وهو رقم قياسي إنجليزي وضعه في مصافّ أبرز المواهب الصاعدة في البلاد. بهذا المستوى، لم يكن انتقاله إلى مانشستر سيتي مفاجئًا إطلاقًا، بل بدا خطوة طبيعية نحو مرحلة أكبر، وأبواب أحلام كان ينتظرها منذ سنوات.
وعندما عاد ترافورد من الإعارة، تؤكد المصادر أن جوارديولا أخبره بشكل مباشر بأنه سيكون الحارس الأساسي في الموسم الجديد، ولفترة وجيزة، بدا أن الوعد كان حقيقيًا؛ فقد شارك الحارس الشاب في 3 مباريات من أول 4، وقدم أداءً واعدًا تضمن 11 تصديًا وشباكًا نظيفة في إحدى المباريات، بدا الطريق ممهدًا، والثقة في أعلى مستوياتها، والجماهير بدأت ترى فيه “الحارس القادم” لسنوات طويلة.

إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان، فجأة، ودون أي تمهيد داخل غرفة الملابس، ظهر اسم جديد في قائمة الفريق: جيانلويجي دوناروما، نعم، هو اسم كبير، وحارس يملك تاريخًا، لكن مستواه كان مهتزًا منذ وصواه مدينة مانشستر، ولم يقدم أداءً ثابتًا سوى في فترته مع باريس سان جيرمان، ومع ذلك، قرر جوارديولا ضمه، ووضع ثقله خلف الحارس الإيطالي، في خطوة أثارت تساؤلات كثيرة حول أسباب هذا التفضيل المفاجئ.
وبمجرد وصول دوناروما، بدا أن كل الوعود التي تلقاها ترافورد تبخّرت، تحول الحارس الشاب إلى بديل، وخسر مكانه رغم بدايته الجيدة، ليجد نفسه يعود إلى نقطة الصفر دون أي خطأ ارتكبه، ومع تراجع دوره بشكل كبير، بدأت دائرة الإحباط تغلق عليه شيئًا فشيئًا، حتى وصل إلى مرحلة التفكير الجدي في الرحيل بحثًا عن مكان يمنحه الثقة التي فُقدت في السيتي.
| الفريق | الموسم | المباريات | الأهداف المستقبلة | الشباك النظيفة | التصديات |
|---|---|---|---|---|---|
| بيرنلي | 2023 | 45 | 16 | 29 | – |
| مانشستر سيتي | 2025 | 3 | 4 | 1 | 11 |
عمر مرموش.. من نجم الموسم الماضي إلى صراع مع الدكة
في موسم 2024-2025، كان عمر مرموش أحد أهم الأسباب التي جعلت مانشستر سيتي فريقًا مرعبًا في الثلث الهجومي، لم يكن مجرد اسم جديد يدخل المنظومة، بل لاعبًا أصبح خلال أشهر قليلة جزءًا من الـDNA الهجومي للفريق، أرقامه كانت لافتة للغاية: 25 مباراة – 8 أهداف – 3 صناعات، لكن هذه الأرقام لا تعكس سوى نصف الحقيقة، فإسهام مرموش امتد ليشمل تقريبًا نصف خطورة السيتي الهجومية، سواء من خلال تحركاته بين الخطوط أو اختراقاته المباشرة، أو حتى من خلال قدرته على جذب المدافعين وفتح المساحات لرفاقه.
كان مرموش لاعبًا يعتمد عليه جوارديولا في المواقف الحرجة، هو ذلك الجناح الذي يحوّل التحول الدفاعي إلى فرصة هجومية في ثوانٍ، والذي يمتلك الجرأة لطلب الكرة في أصعب لحظات المباراة، تكتيكيًا، كان يمثل “الجسر” بين الوسط والهجوم، و“المفتاح” الذي يُستخدم لكسر التنظيم الدفاعي للخصوم، كان يتحرك بحرية محسوبة، يجيد قراءة الثلث الأخير، ويُتقن التغيّر بين الجناح والعمق، مما جعله لاعبًا لا يستطيع المنافسون توقعه بسهولة.

كل ذلك وأكثر.. مرموش كان عنصرًا يثق به جوارديولا، يُشركه في مباريات كبيرة، يعطيه دورًا واضحًا، ويعتمد عليه في تنفيذ أفكار معقدة مثل الضغط العكسي، والاستحواذ الموجّه، والجري بدون كرة داخل المساحات الميتة، مرموش كان لاعبًا لا يمكن المساس به..لا رقميًا ولا فنيًا ولا نفسيًا.
| الموسم | المباريات | المشاركة الأساسية | الأهداف | الصناعات | المساهمة الإجمالية | معدل المساهمة لكل مباراة |
|---|---|---|---|---|---|---|
| 2025 | 25 | أغلبها أساسي | 8 | 3 | 11 | (44%) |
| 2026 | 12 | أغلبها كبديل | 1 | 1 | 2 | (16.7%) |
لكن موسم 2025-2026، حمل واقعًا مختلفًا تمامًا، فجأة، وبدون مقدمات أو تبريرات، اختفى مرموش من الصورة، لم يعد جزءًا أساسيًا من التشكيلة. لم يعد لاعب الظل الذي يقفز لإنقاذ الفريق، لم يعد ذلك “السلاح التكتيكي” الموثوق، تحولت أدواره من لاعب يصنع الفارق إلى لاعب ينتظر الدقائق الأخيرة ليشارك.
أرقامه في هذا الموسم تقول كل شيء: 12 مباراة فقط – معظمها كبديل – هدف واحد – صناعة واحدة – ودقائق لعب لا تتجاوز 20 دقيقة في أغلب المباريات، والأغرب من كل ذلك؟ لا يوجد سبب واحد واضح لهذا التراجع: لا إصابة عطّلته.. لا هبوط كبير في المستوى.. لا مشاكل سلوكية.. لا تغيّر في مركزه الطبيعي داخل الفريق، ولا حتى قدوم لاعب في نفس المركز بمستوى خارق يبرر هذا الإقصاء.
التحليل الأقرب للمنطق — ولطريقة جوارديولا — هو أن بيب أراد تغيير النسق الهجومي وتجديد الدماء، حتى لو جاء هذا التغيير على حساب عناصر قدّمت موسمًا استثنائيًا، جوارديولا من المدربين الذين يؤمنون بأن اللاعب مهما تألق يجب أن يخضع للتجربة من جديد في الموسم التالي، وهذه الفلسفة ساهمت في خلق التطور المستمر للسيتي، لكنها في الوقت نفسه دفعت لاعبين مثل مرموش إلى الهامش رغم قيمتهم الكبيرة.

ومع مرور الأسابيع، بدأت علامات الإحباط تظهر على اللاعب، لم يعد يحصل على دقائق كافية، لم يعد دوره واضحًا، ولم يعد يشعر بأنه جزء من المشروع كما كان سابقًا، وبينما يحاول تقديم أفضل ما يمكن في دقائق معدودة، يعرف هو والجميع أن المشكلة ليست في أدائه، بل في رؤية مدرب يريد دائمًا الجديد، حتى لو اضطر للتضحية بمن كان قبل شهور “لاعبًا لا يُمس”.
ماذا يعني ذلك؟ مشكلة خطيرة في إدارة النجوم
الأزمة الحقيقية لا تكمن فقط في أن بيب جوارديولا يغيّر تشكيله أو يختار البدائل، بل في طريقة تطبيق هذا التغيير، فغياب الشفافية، وعدم وجود معايير واضحة لتوزيع الأدوار، يترك اللاعب في حالة من الحيرة المستمرة: متى سيشارك؟ لماذا لم يُمنح الفرصة؟ ولماذا تم استبعاد لاعب كان عنصرًا أساسيًا قبل أسابيع قليلة؟ هذا النمط من الإدارة قد يقوّض الثقة بين اللاعبين ومدربهم، ويخلق شعورًا مستمرًا بعدم الأمان، حتى بين أولئك الذين يملكون مهارات استثنائية.
هذه الأجواء، إذا لم تُدار بعناية، يمكن أن تتحول إلى أزمة عميقة تهدد استقرار الفريق خارج الملعب قبل أن تهدد نتائجه داخله، في عصر الاحتراف، لم يعد اللاعبون مستعدين للجلوس على الدكة دون سبب مقنع، مهما كانت قيمة المدرب أو حجم الإنجازات السابقة، الثقة، الشعور بالاحترام، وإدراك دور كل لاعب في المشروع، أصبحت عناصر حاسمة للحفاظ على الانضباط والتحفيز، وأي تراجع في هذه الجوانب قد يؤدي إلى نزاعات داخلية أو حتى رحيل النجوم، ما يشكل تهديدًا طويل الأمد لأي فريق، مهما كانت قوته الفنية.

العبقرية التكتيكية وحدها لا تكفي
إدراك هذا الجانب النفسي والإنساني هو ما يميز الفرق العظيمة عن الفرق الناجحة مؤقتًا، ويحول العبقرية الفردية إلى نجاح مستدام على المدى الطويل، حيث يزدهر اللاعبون ويشعرون بالمسؤولية والثقة، ما ينعكس مباشرة على الأداء داخل الملعب وخارجه.

البطولات قد تُحسم على أرض الملعب، لكن الاستمرارية الحقيقية تُبنى في غرفة الملابس، جوارديولا يُعتبر بلا شك عبقريًا من الناحية التكتيكية، قادراً على قراءة المباريات وتحويلها لصالح فريقه بطريقة مذهلة، لكن العبقرية وحدها لا تكفي عندما يتعلق الأمر بإدارة البشر، خاصة لاعبين شباب ونجوم في أوج عطائهم، يحتاجون إلى شعور بالانتماء والثقة وليس مجرد تنفيذ أوامر، يظهر الوجه الأخر لبيب.
مرموش لم يفقد قيمته الفنية، وجيمس ترافورد لم يفقد موهبته الفريدة، وفيل فودين لم يرتكب أي خطأ حين تأثر بالجلوس على الدكة لفترات طويلة. المشكلة ليست فيهم، بل في كيفية إدارة لحظاتهم ومكانتهم داخل الفريق، فاللقب قد يُحسم بفكرة تكتيكية عبقرية، لكن العصر الذهبي للفريق لا يُبنى إلا عندما يشعر اللاعبون أنهم جزء من مشروع جماعي، لا مجرد قطع قابلة للاستبدال في أي وقت، الإدارة البشرية الدقيقة، التقدير، والشفافية، هي ما يحافظ على التوازن النفسي للاعبين، ويضمن أن العبقرية التكتيكية تتحول إلى نجاح مستمر على المدى الطويل.