كوراساو.. جزيرة صغيرة ومدرب غائب يكفيان لتحقيق حلم كأس العالم
قبل الفجر بقليل، وعلى جزيرة صغيرة تزنها الأمواج في الكاريبي خرج الناس إلى الشرفات والساحات لم تكن كوراساو تنتظر فوزًا عريضًا بقدر ما كانت تنتظر جملة واحدة: لقد وصلنا، تعادل سلبي مع جامايكا، لكنه كان كافيًا لتفتح هذه الرقعة الصغيرة الباب الكبير على كرة العالم.
فقد حسم منتخب كوراساو تأهلها بشكل رسمي إلى بطولة كأس العالم 2026 التي ستقام في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والمكسيك، في مفاجأة لفتت أنظار العالم بأكمله.
كوراساو، التي تُعد من أصغر الدول سكانًا في كرة القدم الدولية، بنحو 156,115 نسمة فقط، كتبت فجر اليوم الأربعاء 19 نوفمبر قصتها الأجمل، لم ترفع صوتها كثيرًا لكنها رفعت علمها عاليًا، المونديال كان حلمًا بعيدًا صار واقعًا لأول مرة.
في الملعب كان الأمر بسيطًا وصعبًا في آن: لا تستقبل هدفًا، واحمل معك النقطة التي تعبر بك، وفي البيوت كانت العيون متسمّرة على الشاشة تنسج الذاكرة الجماعية لجيل كامل سيقول يومًا: كنا هناك عندما ولدت كرة كوراساو عالميًا.
جزيرة صغيرة بحلم كبير
ليس سهلًا أن تخرج من جزيرة محدودة الموارد إلى منصة مثل كأس العالم، لكن كوراساو فعلتها بأبسط معاني كرة القدم: تنظيم، انضباط، وإيمان يسبق الصافرة، حجم البلاد لم يحدّد حجم الطموح وعدد السكان لم يقسُ على عدد الأحلام، من ملعب إلى آخر تشكلت شخصية فريق يعرف إمكاناته ويستثمرها حتى آخر دقيقة.
هذه الحكاية ليست إحصاءً بقدر ما هي روح جزيرة في الكاريبي ببحر يحيطها وأفق يوسعها قررت أن تضع نفسها على خريطة اللعب الكبير لا حصص تاريخية ولا مقاعد مضمونة؛ فقط فريق يقدم ما عليه ويقتنص لحظته.
ليلة جامايكا.. تعادل بطعم الوصول
انتهت مباراة كوراساو ضد جامايكا بالتعادل السلبي صباح الأربعاء، لكن نتيجتها جاوزت ما على اللوحة. تلك النقطة رفعت كوراساو إلى صدارة مجموعتها في الكونكاكاف برصيد 12 نقطة، لتُعلن التأهل المنشود. كان المطلوب وضوحًا في الأفكار وهدوءًا في الأعصاب؛ وقد تحقّق الاثنان معًا.
لم تكن ليلة استعراض، بل ليلة تفاصيل صغيرة: ضغط محسوب، تمركز حذر، وحارس مُتيقّظ. وفي نهاية الرحلة، جاء القرار الرسمي: كوراساو إلى كأس العالم 2026.
المدرب الكبير غائب عن الخط
في مشهد يزيد الحكاية إنسانية، خاضت كوراساو مباراتها من دون مدربها الهولندي ديك أدفوكات، الذي سافر إلى هولندا لأسباب عائلية. غاب الرجل عن الخط، لكن أثره لم يغب. أفكاره ظلّت على الملعب، وانضباطه ظلّ في العيون. كان الفريق يلعب باسم المدرب كما يلعب باسم الجزيرة، وكأن كل تمريرة تقول: نحن معك، حتى وأنت بعيد.
هذا الغياب المؤقت منح اللاعبين مساحة إضافية للمسؤولية. قرأ القائد ما يجب قراءته، وترجمت المجموعة أفكارها بهدوء. إنها واحدة من تلك الليالي التي تثبت فيها كرة القدم أنها فعل جماعي حتى في غياب صاحب القرار الأول.
إذا ظل أدفوكات في قيادة كوراساو في كأس العالم 2026، فسيكون أمام إنجاز شخصي غير مسبوق: أن يقف على الخط بعمر 78 عامًا، ليكسر رقم الألماني أوتو ريهاجل الذي قاد اليونان في مونديال 2010 بعمر 71 عامًا. بين سطور هذه الحكاية، تبدو كرة القدم كأنها تكافئ الصبر والخبرة، وتمنح الرجل الذي جاب القارات فرصة أن يكتب نهايته الكبرى في بطولة العالم.
المشهد هنا يتجاوز الأرقام؛ هو صورة مدرب مخضرم يقود منتخبًا من جزيرة صغيرة إلى أكبر مسارح اللعبة. وهذا بحد ذاته عنوان يلخّص معنى الإلهام.
ماذا يعني التأهل لجزيرة من 156 ألف نسمة؟
يعني أن كرة القدم ما زالت قادرة على صناعة المعجزات الصغيرة. يعني أن الفرح قد يأتي من مكان بعيد، وأن علمًا صغيرًا يمكنه أن يملأ الشاشة كلها. سيكبر أطفال كثيرون في كوراساو وهم يملكون حلمًا أكبر، وسيكبر معهم مشروع كروي يدرك أن ما كان مستحيلًا أمس صار ممكنًا غدًا.
التأهل ليس نهاية الحكاية، بل بدايتها. من اليوم وحتى صيف 2026، ستُكتب فصول أخرى: معسكرات وأسماء وجداول ومباريات ودروس. لكن الفصل الأول دوّن عنوانه بالفعل: كوراساو هنا.
ليست كل الحكايات تحتاج إلى عاصفة من الأهداف. أحيانًا يكفي تعادل بلا ضجيج ليغيّر مصير بلد. كوراساو، الجزيرة الصغيرة التي قالت “نعم نستطيع”، باتت على موعد مع العالم. والبحر الذي يحيطها سيحمل الآن صدى نشيد جديد: نحن حاضرون.