أخبار الكرة الإيطاليةروبرتو باجيوتقارير ومقالات خاصة

روبرتو باجيو.. محاكمة عبقري لم يمت واقفًا

كتب على جدران الفاتيكان: “سيغفر الله للجميع ما عدا باجيو”.. بالتأكيد مرت عليك هذه الكلمات، مرفقة بصورة لروبرتو باجيو في نهائي كأس العالم 1994. فكلما جاء التوقف الدولي ظهرت قصة باجيو للساحة مرة أخرى.

روبرتو باجيو الذي جاء من كالدونيو في شمال إيطاليا، وانقسم حوله جماهير كرة القدم في إيطاليا بين محب وكاره، لا شيء ثالث، إما أن تحب باجيو حد العشق، أو أن تكرهه حتى الموت. هكذا هي القاعدة التي لا فرار منها، فالمشاعر في إيطاليا أبيض زاهٍ أو أسود غطيس، لا وجود للرمادي.. إما الحب لدرجة العشق أو البغض والكراهية العمياء، لا وسط بينهما.

كرة القدم الإيطالية دائمًا ما ارتبطت بالصخب، والجرأة والمواجهة والقوة، والقتال حتى آخر لحظة بنفس القوة والرجولة والصرامة والانضباط. ولكن روبرتو جاء ليكسر كل هذه القواعد، ويرسي أخرى خاصة به.. قواعد باجيو، الرجل الذي وقف وحده أمام الجميع.

مارادونا إيطاليا، وبيليه البرازيل، الساحر الموهوب والملهم.. هذا هو مقدار باجيو لكرة القدم، لكنه اختار السير عكس التيار، فدفع ثمن استقلاليته من رصيد محبته، واختار عزلته بيده لا بيد أحد آخر.

كيف كانت مسيرة باجيو قبل مونديال 1994؟

روبرتو باجيو ولد في عام 1967، لعائلة كاثوليكية ملتزمة بين 8 أطفال، وبدأ مسيرته مع فريق فيتشنزا بدوري الدرجة الثالثة، قبل أن يوقع أول عقد له مع نادي فيورنتينا الإيطالي في سن الـ18.

ولكن باجيو كان على موعد مبكر مع الإصابات، فقبل يومين فقط من إكمال انتقاله، تعرض لالتواء في الرباط الصليبي لركبته. إصابة كادت أن تودي بمسيرته مبكرًا واستغرقت 220 غرزة داخلية لإصلاحها مرة أخرى، وبسبب حساسيته ضد المسكنات، شعر باجيو بآلام كل غرزة في ساقه.

ربما استنفذ باجيو كل شعوره بالألم في تلك الجراحة التي أوجعته كل غرزة في ركبته، وانطفأ بعده شعوره بالألم، وخرج منها إنسانًا جديدًا لا يتأثر بما حوله، مزيج من المعاناة والشجاعة يقف على قدمين؛ بعد تلك الإصابة، توقع الأطباء أنه لن يلعب كرة القدم مرة أخرى، لكنها لن تكون المرة الأخيرة له مع الإصابات.


وبعد 18 شهرًا، عاد باجيو للعب مع فيورنتينا ولكنه عانى من إصابة أخرى. وبحلول آخر الثمانينات كان باجيو يسعد الجماهير بأسلوبه المبتكر في اللعب، وتسجيله الركلات الحرة، وانتقل باجيو في 1990 إلى نادي يوفنتوس ليكتب أولى فصول الكراهية في تاريخه.

روبرتو باجيو لعب ليوفنتوس 5 أعوام، وسرعان ما أصبح اللاعب الأساسي في الفريق وكسب قلوب الجماهير، وفي السنوات التالية تألق بشكل لافت، وأبدع في لحظات عبقرية حسم خلالها مباريات مهمة ليوفنتوس.

في 1993، وصل باجيو لذروة أدائه الكروي، وتوج بالكرة الذهبية وحصد جائزة أفضل لاعب في العالم من الفيفا، ومنح يوفنتوس لقب كأس الاتحاد الأوروبي، وهو اللقب الأول للبيانكونيري منذ 10 أعوام.

محاكمة روبرتو باجيو.. للاختلاف ضريبة باهظة

“أرادوا أن ألعب كرة القدم بطريقتهم، لا بطريقتي” دييجو مارادونا.

لمعرفة الأسباب العميقة وراء الكراهية التي حظي بها باجيو خلال مسيرته، علينا أن ننظر أولًا لسمات حقبة ثمانينات الكرة في إيطاليا.

واتسمت كرة القدم في تلك الحقبة بالدفاع الحديدي، والانضباط التكتيكي، واللاعبين أصحاب الشخصيات الصلبة والقوية، والملامح الجادة الصارمة.

في وسط هذا الجو، ظهر شاب نحيل، وهادئ.. لا يصرخ ولا يتباهى، وأعطى نفسه قصة شعر “ذيل الحصان” مخالفة لهيئة اللاعب الإيطالي، فنان أكثر منه جندي وعبقري أكثر منه مقاتل.. قالب مختلف تمامًا للمعروف عن كرة القدم الإيطالية آنذاك، فلا هو هداف قاتل ذي ملامح جادة كباولو روسي، ولا هو مدافع صارم ملتزم قوي البنيان مثل فرانكو باريزي.

روبرتو باجيو كان الاختلاف وسط كل هؤلاء، ملامح هادئة وجسد نحيل، وقصة شعر غير تقليدية.. من هنا بدأت مرحلة اللا انتماء، فلا باجيو يشعر أنه يشبه زملاءه، ولا الجماهير تراه مثلهم.. لكن الموهبة دائمًا طاغية.

أول محطات باجيو مع إثارة الجدل، كان إعلانه التحول للديانة البوذية بدلًا من المسيحية الكاثوليكية الملتزمة التي نشأ عليها.

هنا بدأ الفصل الأول من محاكمة باجيو، الرجل الذي اختار أن يثور على التقاليد في عمر مبكر، ولم يكن يعلم أنه لن يكون الفصل الأخير.. وأنه سيقف طويلًا بين سياج قفص الاتهام، ليحاكمه الجماهير التي رسم لوحاته تحت أنظارهم، وأحيا فنه وإيمانه المختلف، وعاش بروحه بينهم.

ويروي باجيو بنفسه، أنه اختار اعتناق البوذية لأنه اختار البحث عن الشجاعة في الحياة، مشيرًا إلى أنه آمن بها في وقت فقدان للثقة وكآبة شديدة، وأن طريقه للإيمان كان بمثابة تدريب على الشجاعة.

في كل لحظة كان باجيو يقدم نفسه على أنها لوحة حية، كل لمسة للكرة وكل حركة، وكل ضحكة أو لحظة صمت في الملعب، كانت شهادة على فنه وتمرده؛ الجماهير لم تعرف كيف تصفق لرجل لا يشبه النماذج المألوفة لهم، وكيف تحب من يرفض الانصياع للعادة ؟

كان باجيو الفوضى المنظمة، في بلاد تحب كرة القدم الصارمة والمنظمة والمنضبطة.. كان الخيال المطلق الذي لم يعتده الدفاع الإيطالي، كان الاختلاف في زمن الثبات والروتين، الفجوة بين التقليد والإبداع، وبين الانتماء والحرية.

روبرتو باجيو بعد غيابه عامين للإصابة، آسر قلوب مشجعي فيورنتينا لثلاثة أعوام ارتدى فيها قميص الفيولا، قرر الانتقال ليوفنتوس في 1990، الصفقة التي أثارت غضب جماهير فيورنتينا وقاموا بأعمال شغب في الشوارع على إثرها.

وفي المواجهة الأولى بين الفريقين على ملعب فيورنتينا، حصل يوفنتوس على ركلة جزاء ورفض باجيو تسديدها ضد ناديه القديم بذريعة أن حارس فيولا يعرفه جيدًا، ليكتسب غضب جماهير يوفنتوس، الذي ازداد بعدما التقط وشاح فيورنتينا بعد المباراة، وقبّله ثم ألقاه للجماهير.

“عندما أخذت الوشاح الأرجواني، وقبّلته، كانت تلك لفتة عفوية، كان ذلك أقل ما يمكنني فعله لشكر فلورنسا دون الإساءة إلى يوفنتوس” باجيو.. المصدر (توتو سبورت).

الكراهية التي واجهها باجيو في إيطاليا، لم تكن رفضًا عابرًا، بل ثورة مضادة لتمرد باجيو على كل قواعد كرة القدم الإيطالية في هذه الحقبة، فتلك الفترة كان الوفاء والانتماء لفريق واحد سمة عامة للاعبين، فباريزي لم يترك ميلان، وباولو روسي قضى مسيرته بأكملها مع يوفنتوس.

أما باجيو، فقرر أن يكسر القيود، أن يصبح مختلفًا ويمنح العالم متعة الفن بين قدميه، انطلق رشيقًا ومتقنًا في الملاعب كما الفراشة بين الزهور، ينثر الجمال في كل ملعب وطريق يمر به، لا يبالي بالانتقادات ولا المقارنات، فكل لمسة قصيدة، وكل تمريرة لوحة فنية، حتى نال الجميع نصيبًا من سحره الخاص، واستحق أن يُذكر كرمز للحرية والإبداع في زمن الصرامة والانضباط.

هل مات روبرتو باجيو واقفًا؟

الحدث الأبرز في مسيرة روبرتو باجيو كان بطولة كأس العالم 1994، والذي كان فصلًا آخر من الكراهية في مسيرة لم تخل من العداء والرفض.

منتخب إيطاليا 94 لم يحبه أحد، فبحسب ما ذكره حون فوت، مؤلف كتاب A History of Italian Football، كان أريجو ساكي مكروهًا من الجميع.

أريجو ساكي كان ثائرًا كباجيو، وقرر تغيير الطريقة الدفاعية من المراقبة الفردية إلى دفاع المنطقة والضغط المتقدم لاستعادة الكرة وتضييق المساحات بين الخطوط.

بدأ منتخب إيطاليا البطولة بأداء بطيء، وخسروا بهدف ضد أيرلندا في المباراة الافتتاحية، وفي المباراة الثانية ضد النرويج تعرض الحارس الإيطالي جيانلوكا بليوكا للطرد في الدقيقة 21، واضطر ساكي لإخراج باجيو من المباراة للحفاظ على النظام الدفاعي للفريق، وفازت إيطاليا بصعوبة، ثم تأهلوا بالتعادل مع المكسيك للدور المقبل.

تعرض باجيو لهجوم شرس رغم تأهل منتخب إيطاليا لدور الـ16، حتى أن جياني أنييلي، رئيس نادي يوفنتوس آنذاك وصفه بالأرنب المبلول.

ولكن باجيو أطلق ثورته مجددًا وأنقذ إيطاليا من الخروج ضد نيجيريا، بعدما سجل هدف التعادل في الدقيقة 88، وبعدها أحرز هدف الفوز في الدقيقة 102.

ثم سجل روبرتو باجيو هدف الفوز لإيطاليا في ربع النهائي ضد إسبانيا، قبل أن يسجل هدفين في مرمى بلغاريا بنصف النهائي في 4 دقائق فقط، ويضمن تأهل إيطاليا للنهائي.

روبرتو باجيو سجل 5 أهداف بفضلها وصلت إيطاليا إلى نهائي كأس العالم 1994، واصطدمت بالبرازيل، 120 دقيقة مرت سلبية بين المنتخبين، لتحسم ركلات الترجيح الفائز بكأس العالم 1994، تقدم باريزي للتسديد وأهدر، وكذلك دانيلو ماسارو. ولم يتبق سوى باجيو، وتقدم للتسديد وذهبت الكرة للسماء.

“كنت أعرف ما يجب عليّ فعله، وكنت في حالة تركيز مثالية، ولكني كنت متعبًا للغاية لدرجة أنني حاولت تسديد الكرة بقوة”. روبرتو باجيو بعد ركلة الجزاء.

خدعوك فقالوا لن يغفر الله لباجيو.. روبرتو لم يكن المسئول عن ضياع أمل إيطاليا في تحقيق لقب كأس العالم، فحتى لو كان سجل تلك الركلة، كانت البرازيل بحاجة لهدف واحد فقط للفوز بالمونديال، ومع ذلك بقيت اللحظة الأخيرة هي التي حفرت في ذاكرة الجيمع، متجاهلين كل السحر الذي قدمه باجيو طوال البطولة.

ودفع باجيو مرة أخرى ثمن ثورته، انقلابه على التقاليد الإيطالية الكروية، وهذه المرة كانت الغرامة أكبر تناسى الجميع أنه كان المحرك الحقيقي لوصول منتخبهم للنهائي. وبدونه لما واجهت إيطاليا البرازيل في تلك المبارات التاريخية، ومع ذلك، بقي مشهد ركلة الجزاء الضائعة ووقوفه متحسرًا رمزًأ خالدًا لمأساته الشخصية وسط نجاحاته العظيمة”.

روبرتو باجيو، بعد إهداره ركلة الجزاء، قرر العزلة وسافر إلى مزرعته في لا بامبا بالأرجنتين ليُمارس هوايته كصائد للبط. وتبعت أضواء كاميرات الصحفيين إلى مزرعته، ورافقها الشائعات حول إطلاقه النار على أولئك الصحفيين.

كعادته، رفض باجيو الاستسلام واستمر في ثورته، وانتقل إلى ميلان في صيف 1995، ولعب موسمين بقميص الروسنيري، وساهم في تتويج الفريق بالدوري الإيطالي 1995-1996. وعلى الرغم من ذلك استبعده أريجو ساكي من قائمة إيطاليا لأمم أوروبا 1996، والتي ودعها المنتخب الإيطالي من دور المجموعات، وغاب أيضًا عن أولمبياد 1996.

ثم انتقل روبرتو باجيو إلى بولونيا في صيف 1997 لإعادة إحياء مسيرته مرة أخرى، وعاش باجيو ثاني أفضل مواسمه التهديفية بعدما سجل 22 هدفًا، واحتل الفريق المركز الثامن في الدوري الإيطالي.

بين ضياع 1994 وتسجيل 1998: انتفاضة باجيو لا تكفي

شارك باجيو بأولى مباريات إيطاليا في مونديال 1998 ضد تشيلي، وصنع الهدف الأول لزميله كريستيان فييري، ثم تحصّل على ركلة جزاء في الدقائق الأخيرة، بسبب لمسة يد ضد مدافع تشيلي.

تقدم باجيو لتسديد الكرة، واقترب منه زميلاه إنريكو كييزا ودينو باجيو. جالت ذكريات مونديال 94 برأسه وما حدث في ليلة النهائي، ثم سدد كرة قوية سكنت الشباك.

في الدور ربع النهائي، تألق باجيو ضد فرنسا، وكان قريبًا من حسم المباراة بالهدف الذهبي، لكن القائم حال دون التسجيل.

وفي ركلات الترجيح، تقدم باجيو شجاعًا كعادته لتسديد الركلة الأولى، وسجلها بنجاح، ولكن ركلة باجيو لم تكن كافية هذه المرة أيضًا وودعت إيطاليا المونديال.

مسيرة باجيو استمرت 6 أعوام بعد مونديال 1998، وانتهت في 2004 بعدما خرج من قائمة بطولة اليورو، ليعلق حذائه في عمر الـ37.

ولكن باجيو نجح في ثورته الجمالية، فلم يلتفت لوصف جماهير الفيولا له بـ “يهوذا” واعتبار رحيله ليوفنتوس كخيانة يهوذا للمسيح، واعتنق البوذية للبحث عن الشجاعة وعن ذاته.. أراد باجيو أن يلعب كرة القدم بطريقته الخاصة، لا وفقًا لما حاول الآخرون فرضه عليه كانت لمسته وسحره الكروي أقوى من أي اتهام بعدم الانضباط، فترك بصمة فريدة لا تنسى في ملاعب إيطاليا والعالم .

تحمل باجيو فشل مونديال 1994 وحده، شككوا في لياقته وقدرته، الإصابات دمرت ركبته فخضع لعمليتي رباط صليبي قبل سن الـ20، ولم ترحمه الجماهير التي أمتعها بفنه، ليخرج من كل تلك الأزمات شامخًا، رافعًا رأسه عاليًا، حاملًا فنه وروحه كدرعٍ ضد القسوة، ليظل الرجل الذي رغم كل ما مر به، لم يمت واقفًا، بل عاش حرًا، مبدعًا، وخلد اسمه في تاريخ كرة القدم كبطل لم يخضع للتيار.