أخبار الكرة الإيطاليةباولو مالدينيتقارير ومقالات خاصةأخبار

حكاية ربع قرن: لأننا في عالم بيب جوارديولا.. كان على الديناصورات أن تنقرض

كما انقرضت الديناصورات لأنها عجزت عن التكيّف مع تغيّر المناخ، انقرضت في كرة القدم أجيال كاملة من اللاعبين الذين توقّفوا عند حدود أدوارهم التقليدية.

في السابق، كان المطلوب من المدافع أن يمنع الخطر عن مرمى حارسه، والحارس يستخدم يديه للحفاظ على نظافة شباكه، مع مهاجم ينتظر العرضيات داخل الصندوق. هذا ما كان أساس اللعبة، قبل أن يدخل بيب جوارديولا عالم التدريب، ويُعيد تعريف كرة القدم من جديد.

لم يغيّر الفيلسوف الإسباني الخطط وطرق اللعب فقط، بل أعاد هندسة وظائف اللاعبين أنفسهم، فحوّل الدفاع إلى نقطة بناء، والحارس إلى صانع لعب، والمهاجم إلى طُعم لخلق المساحات، وليس فقط لتسجيل الأهداف.

وكلما مرّ الوقت، توغّل جوارديولا أكثر، وواصل الابتكار، حتى إن فضوله في كرة القدم يُعيقه في بعض الأحيان، لكن ما هو مؤكد أن عصر الديناصورات انتهى في كرة القدم، ومن فعل ذلك هو بيب.

العديد من أساطير كرة القدم أُعجبوا بأسلوب جوارديولا، لكنهم أكدوا أن طريقته ساهمت في إنهاء مسيرتهم، مثل لوكا توني المهاجم الإيطالي، ومواطنه المدافع جورجيو كيليني، وعلى أرض الواقع كان جو هارت.

وبمناسبة انتهاء ربع قرن من الألفية، فبالتأكيد لا يوجد مدرب كان له تأثير على كرة القدم خلال تلك الفترة مثل بيب جوارديولا.

جوارديولا أصبح مدربًا

بدأ بيب جوارديولا مسيرته الاحترافية لاعبًا في الفترة من 1991 وحتى 2006، ولعب لأندية مثل برشلونة وبريشيا وروما والأهلي القطري، قبل أن يعتزل في دورادوس المكسيكي.

تزامن اعتزال بيب جوارديولا مع كأس العالم 2006، الذي حققه المنتخب الإيطالي، في مونديال يُطلق عليه البعض “مونديال جيل الديناصورات”، حيث شهد نهاية حقبة من أساطير كرة القدم الذين بدأوا في التسعينيات، وبدأت تلك النجوم تتساقط عامًا تلو الآخر منذ ذلك المونديال في ألمانيا.

منتخب إيطاليا 2006 - المصدر (Getty images)
منتخب إيطاليا 2006 – المصدر (Getty images)

تأثر بيب جوارديولا بطبيعة الحال بطريقة لعب يوهان كرويف، الذي قضى معه الجزء الأكبر من مسيرته (أكثر من 200 مباراة). وبعد رحيل ريكارد، تولى بيب تدريب البلوجرانا، وبدأ العصر الذهبي للنادي الكتالوني.

فريق يمتلك تشافي وإنييستا، خريجي اللاماسيا، الذين يعرفون التيكي تاكا عن ظهر قلب، ومعهم رجل يعشق ذلك الأسلوب، يكره الفردية لكنه يمتلك ليونيل ميسي، فكان ينظم كل شيء، وعندما تصل الكرة إلى ميسي، يصنع ليو الفوضى المنظمة في الثلث الأمامي.

رحل عن برشلونة في ذلك الوقت رونالدينيو وديكو بطلب من جوارديولا، ولم يتمكن من بيع صامويل إيتو، ليستغله في الهجوم من أجل دخول ميسي إلى العمق.

نهاية موسمه الأول كانت مثالية، بالتتويج بالثلاثية، وتطبيق أسلوب اللعب الخرافي الذي أبهر العالم، ليتحوّل تييري هنري إلى جناح ثم يرحل، ويغادر صامويل إيتو في الموسم التالي.

مع مرور الوقت، بدأ جوارديولا يخترع أشياء جديدة في كرة القدم، ما بين المهاجم الوهمي، ومشاركة الحارس في صناعة اللعب، وانضمام الظهيرين إلى الوسط، جميعها أشياء تجعلك ترى برشلونة يلعب بأكثر من خطة على مدار المباراة.

فشل زلاتان إبراهيموفيتش في برشلونة لأنه لم يكن مناسبًا لطريقة جوارديولا، التي تجعل المهاجم مجرد “طُعم” يصطاد من خلاله المدافعين ويترك المساحة لميسي.

بيب جوارديولا - زلاتان إبراهيموفيتش - برشلونة - المصدر (Getty images)
بيب جوارديولا – زلاتان إبراهيموفيتش – برشلونة – المصدر (Getty images)

كان فيكتور فالديز متفاجئًا من طلب جوارديولا الأول له، وكشف في تصريحات سابقة لقناة برشلونة:

“طلبني جوارديولا إلى مكتبه، وعندما بدأنا الحديث، أخرج لوحة وأشار لي إلى ثنائي الدفاع، وقال لي: عليك أن تمرر لهم الكرة قبل أن تفكر في أي شيء”.

“في أول مباراة حاولت فعل ذلك ونظرت له، فأخبرني أن عليّ تنفيذ التعليمات، وهو من سيتحمل أي شيء، ومع مرور الوقت اعتدنا على ذلك، كنت أنظر إلى بيكيه وبويول قبل أن تصلني الكرة لكي أمررها لهم”.

لقد اعتزل مالديني ورفاقه

في نهاية موسم 2008-2009، وهو الموسم الأول لجوارديولا في مسيرته التدريبية، اعتزل باولو مالديني قائد ميلان والمدافع الأسطوري، الذي يعتبره الكثيرون أفضل مدافع في التاريخ.

كان مالديني مدافعًا عصريًا، يدافع بقوة أمام أساطير الكرة، لعب كظهير وقلب دفاع، فعل كل شيء، ليترك نيستا زميله في خط الدفاع.

نيستا، في موسم 2011-2012، آخر مواسم بيب جوارديولا، واجه برشلونة، لكنه لم يتمكن من الذود عن مرماه كما كان مع مالديني أو في لاتسيو.

قال أليساندرو إنه شعر بإحباط كبير بعدما تمكن ميسي من اختراق الدفاع أكثر من عشر مرات خلال عشر دقائق فقط.

“كنت في السابعة والثلاثين من عمري، وحاولت إيقافه بكل ما أملك، لكن في الدقيقة العاشرة تدخلت عليه بقدمي، ثم سقطت أرضًا منهكًا من شدة المجهود الذي بذلته أمامه، ومن إيقاع الفريق حينذاك”.

في العام نفسه، 2012، اعتزل فابيو كانافارو، آخر مدافع تُوّج بجائزة الكرة الذهبية، بعد الأداء الأسطوري في كأس العالم 2006، عندما كان مثل الجدار الحديدي أمام عمالقة ألمانيا وفرنسا، لكنه عانى الويلات في مواجهة برشلونة التي انتهت بسداسية في سانتياجو برنابيو، ولم يتمكن من الدفاع أمام رجال جوارديولا حينذاك، وهو بقميص ريال مدريد.

في الوقت نفسه، كانت أساطير الدفاع تعتزل وترحل إلى أندية أصغر ومنافسات أقل، مثل ريو فرديناند ونيمانيا فيديتش، وكذلك جون تيري، وقبلهم ليليان تورام، على سبيل المثال لا الحصر.

فابيو كانافارو - الكرة الذهبية - المصدر (Getty images)
فابيو كانافارو – الكرة الذهبية – المصدر (Getty images)

هنا بدأت حقبة جديدة من المدافعين، وتصدر المشهد لاعبون مثل جيرارد بيكيه وسيرجيو راموس، ثنائي برشلونة ومنتخب إسبانيا، بالإضافة إلى ليوناردو بونوتشي في يوفنتوس.

العامل المشترك بين الثلاثي هو تميزهم في اللعب بالقدم والمشاركة في بناء اللعب، والدليل أن بيب كان يقاتل من أجل التعاقد مع بونوتشي عندما تولى قيادة مانشستر سيتي.

بيب جوارديولا دمّر الكرة الإيطالية

إذا عدنا إلى الأسطر الماضية، سنجد أن الصدفة جعلت جوارديولا يعتزل في العام نفسه الذي حصلت فيه إيطاليا على كأس العالم، قبل أن تأتي فضيحة التلاعب في النتائج “كالتشيو بولي”، التي أدت إلى هبوط يوفنتوس وخصم نقاط من ميلان، ومعاناة الكرة الإيطالية بشكل عام.

قضية الكالتشيو بولي ومُحاكمة يوفنتوس - المصدر (Getty images)
قضية الكالتشيو بولي ومُحاكمة يوفنتوس – المصدر (Getty images)

وكأن جوارديولا اعتزل ليستغل الوضع، ويبدأ في اختراع أفكار جديدة وطرق لعب لا تناسب بعض اللاعبين، وهو ما أكده جورجيو كيليني في تصريحات سابقة.

قائد يوفنتوس السابق قال في 2017: “لقد أفسدت طريقة جوارديولا الكثير من المدافعين الإيطاليين إلى حد ما، فالمدافعون الآن يعرفون كيف يحددون إيقاع اللعب ويمكنهم توزيع الكرة، لكنهم لا يعرفون كيف يراقبون. للأسف، هذا هو الواقع”.

“عندما كنت صغيرًا، كنا نتدرب على بعض التمارين لنشعر باللاعب الذي نراقبه. أما الآن، ففي الكرات العرضية، لا يقوم المدافعون الإيطاليون – ولا يمكنني التحدث إلا عن المدافعين الإيطاليين – بمراقبة خصومهم”.

“إنه لأمر مؤسف للغاية لأننا نفقد بعضًا من هويتنا وبعض الخصائص التي جعلتنا نتفوق في العالم”.

تصريحات كيليني عكست ما وصلت إليه الكرة في عصر جوارديولا، فأصبح المدافع يهتم بشكل أكبر بكيفية تمرير الكرة والمشاركة في بناء اللعب، أكثر من مراقبة الخصوم والفوز بالالتحامات.

حارس المرمى مثل لاعب الوسط

بعد رحيل جوارديولا عن بايرن ميونخ، ذهب إلى مانشستر سيتي. وبعدما انصاع له تير شتيجن في برشلونة، ووجد مانويل نوير الذي يتميز بمهاراته بالقدم، اصطدم بجو هارت.

وصل جوارديولا إلى ملعب الاتحاد في 2016، وكان جو هارت هو الحارس الأساسي لمانشستر سيتي وقائد الفريق، لكنه وجد نفسه بديلًا دون أي مقدمات.

طالب جوارديولا إدارة مانشستر سيتي برحيل جو هارت، والسبب أن الحارس الإنجليزي لا يستطيع اللعب بقدمه بشكل جيد، وبيب يحتاج لاعبًا يشارك في بناء اللعب.

وقع الاختيار على كلاوديو برافو، ورحل جو هارت، وكانت أول مباراة للحارس التشيلي ديربي مانشستر، ورغم فوز السيتي، ارتكب برافو خطأ فادحًا تسبب في تسجيل إبراهيموفيتش هدفًا للشياطين الحمر.

بعد عامين، جلب جوارديولا إيديرسون مورايس، وحصل مانشستر سيتي معه على كل شيء، وتمكن البرازيلي من الرحيل في 2025، وهو صاحب أعلى عدد من التمريرات الحاسمة لحارس في البريميرليغ، بواقع 6 أهداف مصنوعة.

قبل أن يتعاقد جوارديولا مع الإيطالي جيانلويجي دوناروما، الذي رحل بسبب اعتقاد لويس إنريكي أنه لا يستطيع الانسجام مع طريقة لعب الفريق، حسب ما أشارت المصادر.

ومنذ تصريح جوارديولا بضرورة وجود حارس يجيد اللعب بالقدم، بدأ البعض يرجّح كفة نوير على جيانلويجي بوفون بسبب مهارته بالقدم.

رغم ما حققه بوفون تاريخيًا مع يوفنتوس وإيطاليا والتصديات الإعجازية، فإن الجيل الجديد في كرة القدم يرى أن مانويل نوير مناسب للكرة الحديثة أكثر من غيره.

لوكا توني اعتزل بسبب جوارديولا

بات مانشستر سيتي أرضًا خصبة لفلسفة جوارديولا، ما بين تحويل زاباليتا إلى لاعب وسط في بداية مسيرته في ملعب الاتحاد، وكذلك عدم تجديد عقد أجويرو والاعتماد على المهاجم الوهمي عبر ستيرلينغ أو دافيد سيلفا، مع ظهور طريقة لعب جديدة 3-4-2-1، التي فاز بها بيب بدوري أبطال أوروبا.

في أكتوبر من العام الماضي، التقى بيب جوارديولا بلوكا توني في حفل عشاء مع بعض اللاعبين الآخرين، وتوجه نجم إيطاليا في كأس العالم 2006 إلى جوارديولا وقال له:

“الآن، خطة المهاجم الوهمي، عليك أن تشرحها لي. لقد دمّرت كرة القدم يا رجل. لم أجد ناديًا يرغب في التعاقد معي، لماذا لا تحب المهاجم الصريح؟”.

لوكا توني، الذي لعب مع جوارديولا في بريشيا، اعتزل كرة القدم في 2016، وكانت آخر خمسة انتقالات في مسيرته دون مقابل، بعد رحيله عن بايرن ميونخ، ما بين جنوى ويوفنتوس والنصر الإماراتي وفيورنتينا، وأخيرًا هيلاس فيرونا.

وبالنظر إلى تصريح لوكا توني، نجد أن المهاجم الصريح لم يعد متوفرًا بكثرة في كرة القدم الحديثة، أو بمعنى أدق، أصبح المهاجم بحاجة إلى القيام بأدوار أكثر تعقيدًا ومهام مركبة لا تتعلق فقط بتسجيل الأهداف.

هذا الأمر أدى إلى بحث المدربين عن تطبيق النهج نفسه، ومثلما بدأت الأندية في التعاقد مع حراس مرمى يجيدون اللعب بالقدم، بدأ البحث عن مهاجم يستطيع مساعدة الأجنحة وترك المساحات لهم.

إرلينج هالاند - بيب جوارديولا
إرلينج هالاند – بيب جوارديولا – مانشستر سيتي (المصدر:Gettyimages)

جوارديولا يرضخ قليلًا

ظل جوارديولا يعتمد على المهاجم الوهمي، لكنه فشل في التتويج بدوري أبطال أوروبا منذ رحيله عن برشلونة، إلى أن تعاقد مع إيرلينغ هالاند، فتُوّج بالثلاثية في موسمه الأول مع النرويجي.

وفي رد جوارديولا على لوكا توني، مازحًا: “لديّ هالاند الآن، وهو يسجل أكثر من 50 هدفًا”.

يشير ذلك إلى أن جوارديولا أدرك أنه لا غنى عن الكلاسيكية أحيانًا، وهو ما يظهر أيضًا في تعاقده مع جيانلويجي دوناروما، الذي لم يكن مميزًا في اللعب بالقدم، لكنه حارس مرمى أفضل من إيديرسون.

رحل دوناروما في الأساس عن باريس سان جيرمان بسبب عدم قدرته على اللعب بالقدم، كما قيل، وبالتالي لم تغفر تمريرات إيديرسون الحاسمة له أخطاءه الكارثية في منع الأهداف.

ورغم استفادة جوارديولا من المهاجم الصريح وتعاقده مع حارس مرمى يمتاز بالتصديات أكثر من بناء اللعب، فإن كرة القدم في العالم بأسره تغيرت منذ دخوله عالم التدريب، وأصبح الجميع يسير على نهجه.

لم يكن بيب جوارديولا مجرد مدرب استغل نهاية جيل الديناصورات في كرة القدم، بل كان أحد الأسباب الرئيسية في انقراضه.

جاء في لحظة كانت اللعبة تتغير، بعد أن استهلكت الأدوار التقليدية نفسها لعقود، فقرأ المشهد مبكرًا، وأعاد تشكيل كرة القدم، بل غيّر مفهوم اللاعب قبل أن يغيّر الخطة، فصنع كرة قدم لا تعترف بالتخصص ولا تقدّس المركز بقدر ما تقدّس الفكرة.

وكان طبيعيًا أن يسقط من طريقه لاعبون عظماء لم يتمكنوا من التكيّف، وأن يصعد آخرون لأنهم فهموا اللعبة كما أرادها بيب.

بيب جوارديولا - مانشستر سيتي (المصدر:Gettyimages)
بيب جوارديولا – مانشستر سيتي (المصدر:Gettyimages)

ورغم كل هذا التمرّد، لم يكن جوارديولا أسير أفكاره حتى النهاية. حين احتاج إلى الكلاسيكية، عاد إليها أحيانًا، واعترف ضمنيًا بأن كرة القدم لا تُدار بفلسفة واحدة فقط، فالمهاجم الصريح عاد مع هالاند، والحارس صاحب التصديات فرض نفسه من جديد، لأنك لا يمكن أن تتنازل عن الأساس.

وأخيرًا، فإن بيب جوارديولا حتى وهو يرضخ، يبقى تأثيره حاضرًا في كل الملاعب وبين أغلب المدربين الجدد، وفي كل مدافع يمرر قبل أن يراقب، وكل حارس يفكر في قدمه قبل يديه، وكل مهاجم يُطلب منه أن يصنع المساحة قبل الهدف.

 انتهى عصر الديناصورات، وربما عاد بعضهم متخفّيًا، لأن العالم الذي نلعب فيه اليوم: هو عالم بيب جوارديولا.

نادر شبانة

صحفي مصري منذ عام 2012، عملت بالعديد من القنوات التلفزيونية، أقوم بتقديم محتوى عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أهتم بكرة القدم العالمية والإيطالية بشكل أكبر، أجيد كتابة القصص في كرة القدم والتحليلات للمباريات، وترجمة الأخبار ومتابعة الأحداث لحظة بلحظة