بشراكة مغربية.. بيير ساجا مدرب خرج من الظل ليقود لانس إلى الحلم الكبير
لم تكن مقاعد التدريب في كرة القدم، حتى وقتٍ قريب، سوى امتدادٍ طبيعي لمسيرة اللاعبين السابقين، وكأن التجربة داخل المستطيل الأخضر شرطٌ لا يُناقش لمن يقود الفرق من الخطوط الجانبية. غير أنّ السنوات الأخيرة بدأت تُعيد كتابة هذه القاعدة بصمت، لتفتح الباب أمام عقولٍ لم تصنع مجدها بالأقدام، بل بالفهم، والتخطيط، والقدرة على قراءة التفاصيل الصغيرة. ومن بين هذه العقول، خرج اسم الفرنسي بيير ساجا من الظل، ليصنع واحدةً من أكثر القصص إثارةً في الكرة الفرنسية الحديثة.
في السادسة والأربعين من عمره، وجد ساجا نفسه فجأةً في قلب المشهد، بعدما كان لسنواتٍ طويلة اسمًا غير متداول خارج الدوائر المغلقة للدرجات الدنيا. لم يكن لاعبًا مشهورًا، ولم يطرق أبواب الاحتراف العالي، ولم تُسلَّط عليه الأضواء يومًا، إلى أن جاء نوفمبر 2023، حين استدعاه أولمبيك ليون في لحظة ارتباك، ومنحه مقعد المدرب المؤقت، وكأن النادي يراهن على المجهول في وقتٍ اعتاد فيه صناعة الأسماء لا البحث عنها.
بيير ساجا.. اسم خرج من الظل ليطرق أبواب النخبة
قبل ذلك التاريخ، كانت رحلة ساجا تسير بعيدًا عن العناوين العريضة. لعب لفترةٍ قصيرة حارسَ مرمى في ناديي بيليه وفاليه، وهما فريقان هاويان لا يعرفان ضجيج الملاعب الكبرى. لكنه، حتى في تلك البيئة المتواضعة، لم يكتفِ بحراسة الشباك، بل كان حاضرًا في المكاتب، مشاركًا في الإدارة، ومتتبعًا للمواهب، إلى جانب عمله كشافًا لنادي شاتورو، في مسارٍ بدا وكأنه إعدادٌ مبكر لفهم كرة القدم من زواياها كافة.
عام 2007 شكّل محطةً مفصلية، حين انضم إلى نادي بورج بيروناس، وهناك لم يكن مجرد مدربٍ عابر، بل رجل مشروع. تنقّل بين تدريب الفئات السنية، والعمل مديرًا رياضيًا، ثم مديرًا فنيًا للفريق الرديف، قبل أن يصبح مساعدًا للمدرب الأول.
سنواتٌ من العمل الصامت أثمرت صعود الفريق إلى دوري الدرجة الثالثة، وهو الإنجاز الذي منح ساجا أول اعترافٍ حقيقي بقدراته، وأهّله لتولي مسؤولية تدريب نادي شامبيري، حيث خاض واحدةً من أصعب مهامه، ونجح في إنقاذ الفريق من الهبوط في وقتٍ كانت فيه الخيارات محدودة، والضغوط مضاعفة.
ورغم ذلك، ظل اسمه حبيس الدرجات الدنيا، متنقلًا بين تجارب لا تملك بريق الشهرة، لكنه، في المقابل، كان يراكم الخبرة بصبرٍ لافت. إلى أن جاءت فرصة عام 2019، حين التحق بأكاديمية أولمبيك ليون، وهناك بدأ العمل على العقول الصغيرة، وصقل اللاعبين الشباب، قبل أن يتلقى، بعد عامين، اتصالًا غير متوقع من النجم السنغالي السابق حبيب بيي، الذي كان يستعد لخوض مغامرته التدريبية الأولى، وطلب منه الانضمام إلى جهازه الفني في نادي النجم الأحمر.
المؤقت الذي تحوّل إلى منقذ
امتدت التجربة لخمسةٍ وخمسين مباراة، قبل أن تنتهي، ويعود ساجا مجددًا إلى ليون، هذه المرة لتولي فرق الناشئين. لكن كرة القدم لا تمنح إشاراتٍ مسبقة دائمًا. فالأزمة التي ضربت النادي، المملوك لرجل الأعمال الأميركي جون تيكستور، فرضت واقعًا جديدًا، وجعلت ساجا خيارًا اضطراريًا لتولي تدريب الفريق الأول بصفةٍ مؤقتة، في وقتٍ كان فيه ليون يبحث عن طوق نجاة أكثر من بحثه عن مشروعٍ طويل الأمد.
ما حدث بعد ذلك تجاوز كل التوقعات. الفريق الذي كان غارقًا في الشكوك، استعاد توازنه بسرعة، وبدأ يحصد الانتصارات تباعًا، ليُثبت ساجا أنه لم يكن مجرد حلٍّ مؤقت. بأسلوبٍ هادئ، وقراراتٍ محسوبة، أعاد الروح إلى مجموعةٍ فقدت ثقتها بنفسها، ودوّن اسمه في تاريخ النادي، بعدما أصبح ثالث أكثر مدربٍ حصدًا للنقاط في مسيرة أولمبيك ليون، في إنجازٍ بدا أقرب إلى المعجزة الكروية.
لكن كرة القدم، كما تمنح لحظات المجد، لا تتردد في صناعة القطيعة، فكما كانت بدايته مفاجئة، جاء رحيله سريعًا، بعد خلافٍ مع مالك النادي، انتهى بإقالته من منصبه، في مشهدٍ أعاد التذكير بقسوة اللعبة وتقلباتها. غير أن القصة لم تنتهِ عند هذا الحد.
ساجا وعليوي.. شراكة بدأت قبل الأضواء
في مؤتمر تقديمه مع الجهاز الفني الجديد، شدّد ساجا على أهمية العمل الجماعي والالتزام التكتيكي، مؤكدًا أنه يرى في لانس مشروعًا طموحًا يتطلع لتعزيز وجوده في الدوري الفرنسي وتحقيق نتائج أكبر على المدى الطويل، خصوصًا في سياق المنافسة الشرسة في الليج 1.
𝗦𝗲 𝗽𝗿𝗲𝘀𝗲𝗻𝘁𝗲𝗿 𝗲𝘁 𝘀𝗲 𝗽𝗿𝗼𝗷𝗲𝘁𝗲𝗿 🎙
Au lendemain de sa nomination, Pierre Sage a été présenté aux médias, ce mardi, aux côtés du Directeur général Benjamin Parrot et du Directeur sportif Jean-Louis Leca.
👉 https://t.co/bShOazcYj0#FiersDEtreLensois pic.twitter.com/Cn2nerz4Wr— Racing Club de Lens (@RCLens) June 3, 2025
كما أثنى ساجا في تصريحات رسمية على مؤازرة مدربه المساعد المغربي جمال عليوي، واصفًا العمل معه بأنه عامل مهم في نشر ثقافة التدريب الجاد داخل الفريق.
كان جمال عليوي جزءًا من جهاز أولمبيك ليون الفني، حيث عمل كمساعد أول لساجا قبل أن ينتقلا معًا إلى نادي لانس في صيف 2025 بعقد يمتد حتى يونيو 2028، في خطوة اعتُبرت تجسيدًا لثقة المدرب الفرنسي في خبراته التكتيكية والتواصلية.
العمل مع ساجا في ليون ثم لانس يؤكد وجود رؤية مشتركة بين الثنائي حول أسلوب اللعب المنظم، الضغط المكثف عند فقدان الكرة، والتحولات السريعة، وهو ما ساعد في تشكيل منظومة تكتيكية متماسكة داخل الفريق.
لكن المفاجأة أن عليوي عمل من قبل مع ساجا بداية من عام 2022، عندما عمل كمساعد له في نادي فيرساي، ثم نادي بورجس فوت، قبل أن ينتقلا معًا للعمل في أولمبيك ليون في يناير 2024.
ساجا ولانس.. هل يكتمل الحلم الأوروبي؟
نادي لانس تحرّك في الصيف الماضي، والتقط المدرب الذي خرج لتوه من عاصفة ليون، ومنحه فرصةً جديدة لقيادة مشروعٍ طموح.
قاد بيير ساجا فريق لانس في 17 مباراة منذ بداية الموسم، نجح في تحقيق الفوز في 13 منها، بجانب التعادل في لقاء وحيد، وتلقى 3 هزائم فقط كانوا أمام أولمبيك ليون في مستهل مشواره، بجانب السقوط أمام باريس سان جيرمان، ثم أكمل بعدها 13 مباراة، حقق منها 11 انتصارًا، وسقط في فخ التعادل السلبي أمام ستاد رين، والخسارة أمام ميتز؛ ويتصدر لانس ترتيب الدوري الفرنسي بعد أول 16 جولة.
يبدو واضحًا أن بيير ساجا وجد نفسه أخيرًا في المكان المناسب، بعدما ابتعد عن أجواء التوتر والضغوط التي لاحقته خلال فترته مع أولمبيك ليون. في لانس، بدا المدرب الفرنسي أكثر تحررًا، وأكثر قدرة على ترجمة أفكاره التكتيكية بهدوء وثبات، وهو ما انعكس سريعًا على أداء الفريق ونتائجه داخل الملعب.
منذ رحيله عن ليون، بدأ ساجا في بناء فريقه الجديد وفق رؤيته الخاصة، معتمدًا على منظومة لعب مرنة قوامها 3-4-2-1، تتحول بسلاسة أثناء المباريات بحسب الحالة الهجومية أو الدفاعية. هذه المرونة التكتيكية منحت لانس قدرة واضحة على التحكم في إيقاع اللعب، سواء بالاستحواذ أو من دون كرة.
على المستوى الدفاعي، يعتمد ساجا على ضغط عكسي مكثف فور فقدان الكرة، قبل التراجع المنظم إلى منتصف الملعب، حيث يُفعَّل ضغط رجل لرجل (Man-to-Man) يُربك الخصوم ويُصعّب عليهم عملية البناء من الخلف. هذا الأسلوب جعل لانس واحدًا من أكثر الفرق إزعاجًا للخصوم في الدوري الفرنسي هذا الموسم.
هجوميا، نجح بيير ساجا في إعادة اكتشاف عدة أسماء، فقد أعاد هودسون إدوارد إلى مستوياته التهديفية، ليصبح أحد أبرز هدافي الدوري، كما أعاد إحياء مسيرة فلوريان توفان الذي عاد تدريجيًا إلى الواجهة بعد سنوات من التيه.
💬 Pierre Sage : « C’est une fierté d’avoir présenté ce visage. On a affiché les valeurs qui représentent bien notre club. »
— Racing Club de Lens (@RCLens) September 28, 2025
💬 @FlorianThauvin : « Malgré l’infériorité numérique, on s’est battus les uns pour les autres. C’est une performance collective. »#LeDébrief #SRFCRCL pic.twitter.com/oqAotMzzr3
ولم يحتج ساجا إلى وقتٍ طويل ليترك بصمته؛ فخلال سبع عشرة جولة فقط من الدوري الفرنسي، تحوّل فريق “الدم والذهب” إلى أحد أبرز مفاجآت الموسم، ومنافسٍ حقيقي على اللقب بعد التتويج ببطل الشتاء متفوقًا على باريس سان جيرمان، واقترب من حلمٍ التأهل إلى البطولات الأوروبية الموسم المقبل.
حتى الآن، يقدّم بيير ساجا موسمًا عالي الجودة على مستوى الأداء والنتائج، ويبدو مشروعه مع لانس ناضجًا ومتماسكًا، وفي حال واصل الفريق السير بالنسق نفسه، مع تجنب الإصابات والحفاظ على استقرار المجموعة، فإن لانس يملك كل المقومات للذهاب بعيدًا في المنافسة على لقب الدوري، وحجز مقعد في دوري أبطال أوروبا.