برشلونة وحصان طروادة.. عندما كان رحيل مارتينيز “كعب أخيل” للبلوجرانا

في عمق التاريخ، تقف أسطورة طروادة شامخة كواحدة من أكثر الملاحم الملهمة في الأدب الإغريقي؛ مدينة محصنة لا تُقهر، فرسان شجعان، وحصار دام عشر سنوات لم يسقطها، حتى جاء اليوم الذي نجح فيه الأعداء في اختراقها من خلال أكثر الحيل شهرة في التاريخ «حصان طروادة».
لكن ما خفي على الجميع أن الحصان وحده لم يكن سبب السقوط، بل سبقه أمر جوهري قلب الموازين؛ انضمام الفارس المغوار أخيل إلى المعركة، البطل الأسطوري الذي لا يُهزم عاد ليقف على رأس الحصار ويقلب الدفة لصالح الغزاة، فأصاب خبر انضمامه للجيش رؤوس أهل طروادة كالصاعقة، وكان يعتمد عليه الغزاة على أبواب طروادة بشكل أساسي في القتال، ولم يُفلح أحد في النيل منه طوال سنوات، إلا من كعب قدمه – نقطة ضعفه الوحيدة.
تقول الأسطورة اليونانية الشهيرة إن والدة أخيل غمسته في نبع الخلود حين وُلد، فاكتسب المناعة ضد أي احتمال للخطر، لكن والدته كانت قد أمسكت به من كعبيه فيما هو منغمس في ذلك النبع، ولذلك صار كعباه نقطة الضعف الوحيدة لبطل حصين وفارس لم يعرف الهزيمة يومًا، وبات كعب أخيل نقطة ضعفه التي فيها فناء قوته وزوال خلوده، فعندما تُضرب يصبح أخيل هو والعدم سواء.
أسطورة طروادة تتكرر في الكامب نو
واليوم، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه – لكن على ملاعب كرة القدم – وتحديدًا في مدينة برشلونة، حيث يشهد الفريق الكتالوني انهيارًا دراميًا لا يختلف كثيرًا عن ملحمة حصان طروادة. فبعد أن تمكن هانزي فليك مدرب الفريق من بناء منظومة قوية ومحكمة “كحصان طروادة التاريخي”، كان رحيل المدافع الإسباني إينييجو مارتينيز بمثابة “كعب أخيل” للبلوجرانا ليصير رحيله نقطة ضعف وثغرة أطلقت سلسلة من الانهيارات.
فعندما تعاقد برشلونة مع مارتينيز في صيف 2023، لم يكن مجرد مدافع يُضاف إلى قائمة الفريق، بل كان بمثابة صخرة تُبنى عليها منظومة دفاعية حديدية، ومحارب يحمل في جعبته خبرة وتجربة هائلة من الليجا الإسبانية.
صحيح أن موسمه الأول لم يكن مميزًا بسبب الإصابات، إلا أن موسمه الثاني تحول فيه إلى حجر الزاوية في منظومة فليك، بعدما لعب 46 مباراة سجل خلالها هدفًا وحيدًا، لكنه كان أكثر من مجرد مدافع، فقد كان بركانًا ثائرًا في الميدان، وصوتًا عاقلًا داخل غرفة الملابس.
فتح رحيله إلى النصر السعودي في صفقة مجانية قبل شهرين فجوة دفاعية لا يمكن تجاهلها، وفراغًا نفسيًا داخل الفريق، كما لو أن “كعب أخيل” قد ضُرب، فاهتزت المنظومة بأكملها.
View this post on Instagram
كعب أخيل برشلونة يتسبب في تراجع المستوى
ففي الوقت الذي بدأت فيه نتائج برشلونة تتراجع، خاصة عقب السقوط الأوروبي أمام باريس سان جيرمان بثنائية مقابل هدف، ثم السقوط المدوي أمام إشبيلية 4-1، قبل أن يختتم البلوجرانا سلسلة النتائج السلبية بهزيمة قاسية مع الرأفة أمام الغريم التقليدي ريال مدريد على ملعب سانتياجو بيرنابيو، اتجهت الأنظار للبحث عن السبب، واكتشف كثيرون أن النقطة التي تغير عندها كل شيء كانت لحظة رحيل مارتينيز عن صفوف الفريق قبل ما يقرب من ثلاثة أشهر.
فحين غاب إينييجو غاب التوازن الدفاعي، وظهرت الفوضى في التنظيم واختلت منظومة دفاع السلسلة لهانزي فليك، لكن الأخطر من ذلك كان غياب “صوت القائد” في غرفة الملابس. فالنواقص الفنية من الممكن تعويضها، لكن غياب التماسك عن غرفة الملابس وعدم وجود قائد يحرك الفريق، من يقدر على تعويضه؟
وهذا ما أكدته الصحافة الإسبانية عندما قال الصحفي الإسباني إميليو بيريز عبر صحيفة ماركا الإسبانية: “لا يوجد لبرشلونة قائد في غرفة الملابس بعد رحيل إينييجو مارتينيز.. لا أحد يقوم بالتوبيخ داخل الغرفة، أنا متأكد”. فما حدث لم يكن مجرد فقدان لاعب؛ بل فقدان توازن كامل، كما فقد حصان طروادة البطل الأسطوري أخيل بعد أن داهمهم بالحصان الخشبي.
التضحية بمارتينيز مكسب مالي وخسارة فنية
صحيح أن رحيل مارتينيز صاحب الـ34 عامًا وفّر للنادي نحو 14 مليون يورو من كتلة الرواتب، وسمح له بتسجيل صفقات جديدة، لكن كان ذلك ثمنًا باهظًا على المستوى الفني والقيادي، لا سيما أن اللاعب كان قد رفض في السابق عرضًا مغريًا من الدوري السعودي، مفضّلًا البقاء والقتال مع برشلونة.
لكن الاتفاق المسبق بالسماح له بالرحيل إن تلقى عرضًا مناسبًا جعل رحيله أمرًا حتميًا، خاصة مع رغبة النصر في تعزيز خطه الخلفي بمدافع من هذا الطراز. فخلال رحلته القصيرة المؤثرة مع برشلونة، خاض إينييجو مارتينيز 71 مباراة بقميص البلوجرانا، نجح خلالها في تسجيل 3 أهداف وتقديم 8 تمريرات حاسمة، ليبرهن على أنه لم يكن مجرد مدافع تقليدي؛ بل عنصرًا حيويًا في بناء الهجمات وصناعة اللعب من الخلف.
ولم تخلُ مسيرته من الألقاب، فقد تُوّج مع الفريق بثلاث بطولات كبرى هم الدوري الإسباني، كأس ملك إسبانيا والسوبر الإسباني، جعلته إسهاماته الدفاعية والقيادية واحدًا من أبرز من ارتدوا القميص الكتالوني في الحقبة الأخيرة، رغم قِصر المدة التي قضاها داخل أسوار “الكامب نو”.
حصان طروادة الحديث وثلاثي الهجوم للبرسا
وفي السياق ذاته من قصة حصان طروادة التاريخي، لم تكن المدينة لتسقط لولا أخيل، الذي خطط للخدعة الكبرى التي تمثلت في “حصان طروادة” والذي اعتمد عليه غزاة طروادة بشكل أساسي لإنهاء الحصار واختراق دفاعات المدينة التي دامت عقدًا كامل، واليوم، يعيش برشلونة ذات السيناريو، لكن بحصان مختلف لا يقوده أخيل واحد؛ بل ثلاثة هم بيدري، لامين يامال، ورافينيا.
فيعتمد الفريق بشكل مفرط في هذه الآونة على لحظات الإلهام الفردي من هذا الثلاثي، حتى باتت خطة اللعب أشبه بمقامرة ففي يوم سيئ لأحدهم، أو حتى حينما يغيب للإصابة، يظهر العملاق الكتالوني مترنحا كفارس فقد سيفه واختل توازنه، بل وقد يُقصى من دوري الأبطال، كما حدث سابقًا أمام إنتر ميلان، أو يتلقى هزيمة مدوية في الليجا كما حدث أمام إشبيليه، أو حتى الظهور بمستوى هزيل وخسارة الكلاسيكو، فكلمة السر هنا هي أخيل والحصان الخشبي، إذا نجح أهل طروادة في إيقافهم لصمدت المدينة وبالتالي التخلص منه يعني صمود المدينة، وهكذا الحال بالنسبة للفرق التي تواجه برشلونة عند إيقاف خطورة الثلاثي الأمامي أو حتى تضييق الخناق عليهم، يصبح برشلونة بدون خطورة تذكر، ويظهر مستسلم كفارس ألقى درعه وفتح ذراعيه لمواجهة مصيره.
وهنا، يكتمل التشبيه.. برشلونة فقد مارتينيز بعد رحيله إلى النصر السعودي ليصير بمثابة «كعب أخيل» في منظومة هانزي فليك الذي يعيش في ظل «حصان طروادة» يقوده ثلاثة فرسان قد يتحول في أي لحظة من ميزة إلى مأساة، إذا لم تتدخل الإدارة الفنية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل مرحلة حساسة من الموسم، وإيجاد حلول بديلة والإعتماد على منظومة واضحة لا عناصر فردية.
هل يتعلّم برشلونة من الأساطير؟
أسطورة طروادة لم تكن مجرد قصة حرب، بل درسًا في الغرور، والخداع، والثقة الزائدة، تمامًا كما لا يمكن بناء مدينة بلا أسوار حصينة، لا يمكن بناء فريق عظيم دون عمق دفاعي، وتوازن، وقادة داخل وخارج الملعب، وحلول بديلة بمنظومة جماعية تعمل كما التروس في الألة، إن غاب أحدها أو تم استبداله يكن لبديله نفس التأثير.
كتيبة برشلونة اليوم تشبه أسطورة طروادة أكثر من أي وقت مضى.. حصار نفسي، فجوات دفاعية، واعتماد على لمحات فردية، وكل ذلك بدأ من لحظة ظن فيها الجميع أن رحيل مارتينيز لن يُحدث فرقًا، لكن كما أودى سهم صغير بأخيل، قد يودي قرار واحد بمستقبل موسم كامل لفريق عملاق بحجم برشلونة الذي لا يزال يملك الفرصة ليُغلق «الكعب» المفتوح قبل أن تسيل منه الدماء ويتسلل إليه سهم جديد.