أخبار الكرة الإسبانيةأخبار برشلونة اليومبرشلونةأخبار

برشلونة في زمن الفيلسوف فليك.. حين يخسر الفريق من أجل نجاح الفكرة

في أثينا القديمة، وقف سقراط أمام قضاته رافعًا رأسه، رافضًا التراجع عن قناعاته التي آمن بها طوال حياته، عرضوا عليه النجاة إن تراجع، لكنه اختار الموت على أن ينكر فكره، شرب السم بيده، ليموت وفي قلبه يقين بأنه انتصر للفلسفة وإن خسر الحياة، واليوم، وبعد قرون من تلك الحكاية التي شكّلت معنى الصمود الفكري، يقف هانز فليك في برشلونة أمام مشهد مشابه، وإن اختلفت الميادين.

ففي مستطيلٍ أخضر بدلًا من ساحات أثينا، يواجه المدرب الألماني اختبارًا وجوديًا لفلسفته الكروية الصارمة تُجبره على الاختيار بين فلسفته وبقائه.

فهل يتمسك بأسلوبه حتى النهاية؟ أم يتعلم أن البقاء لا يعني دائمًا الانتصار في الجدل، بل أحيانًا يكون التنازل عن بعض القناعات السبيل من أجل إنقاذ الفريق؟

بين فلسفة الفكر وفلسفة الميدان

حين تولّى فليك تدريب برشلونة، أعلن بوضوح أنه لا يساوم على مبادئه.. ضغط عالٍ، خط دفاع متقدّم، ومصيدة تسلّل منظّمة، هي فلسفة تنبع من المدرسة الألمانية الحديثة، لكنها تميل نحو المثالية وأشبه بفكرٍ سقراطي في كرة القدم «نظام صارم لا يقبل التساهل».

الموسم الماضي، كانت المنظومة تُرعب الخصوم؛ فمصيدة التسلل عملت بانسجامٍ كامل ورصدت شباك البلوجرانا 301 حالة تسلّل ضد الخصوم في 60 مباراة، بمتوسطٍ يتجاوز خمس حالات في اللقاء.

لكن في الموسم الحالي، ومع مرور 13 مباراة فقط، انخفض المعدل إلى 4.23 حالة، أي تراجع واضح في فاعلية السلاح الذي كان درع برشلونة الأول، هذا الانهيار في التماسك الدفاعي لا يتعلق بالأرقام فقط، بل يكشف عن خللٍ فلسفي أعمق في طريقة تفكير فليك، الذي يتمسك بالمبدأ حتى عندما لا تتوفر له أدوات تطبيقه.

الكلاسيكو.. لحظة سقوط الفلسفة أمام الواقع

مباراة الكلاسيكو الأخيرة أمام ريال مدريد كانت بمثابة “محاكمة سقراطية” علنية، برشلونة حافظ على خط دفاعه المتقدّم بشجاعة كما حدث في أثينا منذ مئات السنين، لكن الخصم الملكي لم يجد صعوبة تُذكر في استغلال المساحات خلفه.

في الماضي، كانت مصيدة فليك تُحاصر المهاجمين في توقيتٍ مثالي، أما الآن، فباتت تُكسر بسهولة، ريال مدريد وقع في التسلل خمس مرات فقط هذا الموسم، بينما في مباراة الموسم الماضي في البرنابيو، وقع في اثنتي عشرة مرة.

الفرق هنا ليس مجرد رقم؛ بل مؤشر على انهيار المنظومة الذهنية للفريق، فبرشلونة لم يعد يضغط كما اعتاد، ولا يهاجم بالحدة نفسها، ما جعل خصومه أكثر راحة في بناء اللعب، وأكثر قدرة على ضرب الخط المتقدّم بسهولةٍ قاتلة.

سقراط وفليك.. الإيمان الذي يتحول إلى قيود

الفارق في هذه الحالة بين سقراط وفليك ليس بالكبير، فكلاهما دفع ثمن الإيمان المطلق بالفكر، سقراط رفض المساومة على الحقيقة، وفليك يرفض المساومة على فلسفته، فهل يواجه الاثنان نفس العاقبة؟ هذا غير معروف حتى الآن.

لكنهما يشتركان في مأزقٍ واحد: حين يتحول الفكر إلى سجنٍ من المبادئ، يصبح المرء أسيرًا لقناعاته، فليك ما زال يصرّ على أن الدفاع العالي هو “أفضل وسيلة للهجوم”، لكن هذه الفلسفة لم تعد تنجح في ظل الظروف الحالية بسبب الإصابات التي أنهكت خط الوسط وأضعفت الضغط، وتراجع اللياقة البدنية لعددٍ من المدافعين (كوندي، بالدي)، وغياب الانسجام جعل المسافات بين الخطوط تتسع، فتكسّرت المصيدة.

ومع كل ذلك، لا يظهر على المدرب أي نية للتراجع أو التعديل، وكأنه يقول كما قال سقراط يومًا: “لا حياة بلا فضيلة، ولا تدريب بلا مبدأ”، لكنه لا يدرك أن الجمود والتشدد قد يكون القلم الذي يكتب نهايته كمدربٍ لفريق برشلونة.

تراجع المنظومة.. من الانضباط إلى الفوضى

التحليل التكتيكي الذي قدّمه المحلل الإسباني فيرمين سواريز بعد الكلاسيكو، لخّص المشهد بوضوح مذهل: “في الشوط الثاني، أكمل برشلونة 300 تمريرة مقابل 80 لريال مدريد، لكنه لم يسدد سوى مرتين على المرمى”.

هذه الجملة وحدها تختصر المأساة الكتالونية، فالاستحواذ تحوّل إلى غايةٍ بحد ذاته، لا وسيلة للسيطرة، الخصم لم يعد يشعر بأي ضغط هجومي، وبالتالي لا يتأثر بخط الدفاع المتقدّم، فمنظومة فليك بُنيت على أن الضغط يبدأ من الهجوم، لكن حين يتراجع هذا الضغط، تتحول المصيدة إلى مصيدةٍ للفريق نفسه.

لعبة المقامرة بين الفكر والبقاء

فلسفة فليك الآن أشبه بمقامرةٍ فكرية، إما أن تُصيب فتجعل برشلونة آلة أوروبية جديدة، أو تخيب فتُنهي رحلته في كامب نو قبل اكتمالها، بسبب ضعف الأدوات في الوقت الحالي.

والمفارقة أن ما جعله مميزًا – صلابته الفكرية – قد يصبح سبب نهايته، ففي كرة القدم كما في الفلسفة، لا يكفي أن تكون محقًا فكريًا، بل يجب أن تكون مرنًا تكتيكيًا، ولنا في سقراط الذي اختار الموت حفاظًا على فكره مثال، أما فليك فقد يُجبر على الرحيل إن لم يتعلم أن المرونة ليست خيانةً للمبدأ، بل وسيلة لحمايته.

ولكن من الممكن تدارك الوضع فلا يُعاني برشلونة مع هانز فليك من ضعفٍ تكتيكي بقدر ما يُعاني من إصرارٍ فلسفي جامد، فالفريق لا يحتاج إلى ثورةٍ فكرية، بل إلى توازنٍ بين القناعة والتكيّف.

فالمدرب الذي يتمسك بمبدئه حتى النهاية قد يبدو بطلًا في الكتب، لكن في كرة القدم الحديثة، البقاء للأكثر مرونة لا للأكثر إيمانًا، ربما يُذكّرنا فليك اليوم بسقراط من جديد، لكن النجاة أحيانًا تكون في التراجع خطوةً عن الفلسفة، لا الموت دفاعًا عنها.

منصور مجاهد

صحفي مصري منذ 2019، خريج إعلام القاهرة، شغوف بكرة القدم الإنجليزية وصناعة التقارير العميقة، مقدم برامج ومعلق صوتي بخبرة أكثر من 7 سنوات بمجال الإعلام.