في عالم كرة القدم، أحيانًا تذوب الخطوط بين الموهبة والجنون، وبين الشجاعة والتهور، يبرز أحيانًا مدربون يمتلكون جرأة نادرة وقدرة على تحدي المنطق، لا لأنهم متهورون، بل لأنهم مؤمنون حتى النخاع بما يقدمونه.
هانز فليك واحد من هؤلاء الذين يجمعون بين الفلسفة الألمانية الصلبة وإصرار لا يلين على اللعب الهجومي.. رجل بنى سمعته على الجرأة الفكرية والاجتهاد المهني، وعلى قدرته على مناطحة الكبار دون تردد، حتى أصبح برشلونة تحت قيادته فريقًا مرعبًا، لا يرحم من يواجهه، ولا يمنح خصومه فرصة لالتقاط الأنفاس.
لكن كرة القدم، كما نعرف جيدًا، ليست مسرحًا يسير وفق أسماء المدربين وأوزانهم التاريخية، بل لعبة قادرة دائمًا على إنتاج مفاجآت من خارج الضوء، وفي تلك الليلة، كان الضوء كله على رجل آخر.. إنزو ماريسكا.

من مدرب كان يُنظر إليه باعتباره “مشروعًا”، إلى مدرب قرر فجأة أن يغير كرّاسات التصنيفات، ويكتب اسمه بلا إذن بين كبار أوروبا، جاءت ليلة برشلونة على ستامفورد بريدج حتى تكون فصلًا جديدًا في حكاية الرجل الذي لا يكترث لما يجب أن يحدث.. بل يصنع ما يريد هو أن يحدث.
قصة بدأت قبل برشلونة.. قبل باريس.. قبل كل شيء
قبل أن تتحول الأضواء إلى ستامفورد بريدج، وقبل أن تبدأ المقارنات بين ماريسكا وفليك، كانت هناك ليلة أخرى.. ليلة غيرت صورة الإيطالي في ذاكرة الجماهير، ليلة باريس سان جيرمان في نهائي كأس العالم للأندية 2025، كان الجميع يترقب تلك المواجهة باعتبارها اختبارًا قاسيًا لمدرب ما زال كثيرون يشككون في قدرته على مجابهة كبار أوروبا، الإعلام الفرنسي لم يتوقف عن التأكيد أن “الاستحواذ سيكون باريسيًا بنسبة ساحقة”، وأن تشيلسي لن يملك إلا الركض خلف الكرة.
وبعد مؤتمر صحفي هادئ، جاء السؤال الذي بدا للوهلة الأولى سؤالًا تقليديًا، سؤالًا لا يحتاج إلى تفكير:
كيف ستتعامل مع فريق سيستحوذ على الكرة طوال المباراة ؟
لكن الرد لم يكن تقليديًا.. لم يكن متوقعًا.. ولم يكن آمنًا، ابتسم ماريسكا، تلك الابتسامة التي تجمع بين الثقة والدهاء، ثم قال بنبرة خفيفة لكنها تحمل قناعة حقيقية: “ومن قال إن باريس سيمسك الكرة طوال المباراة”؟
كانت الجملة صادمة.. بل ومستفزة، فأخذت الصحافة الفرنسية العبارة وكأنها إعلان حرب، سخر البعض، اعتبر آخرون أن المدرب مغرور أو منفصل عن الواقع، فمن يجرؤ على نفي قدرة باريس على الاستحواذ؟ من يتحدّى فريقًا يملك واحدة من أقوى آلات السيطرة في أوروبا؟

لكن ماريسكا لم يكن يتحدث من فراغ، كان يعرف ما يقول تمامًا، لأنه لم يترك دقيقة من مباريات باريس دون دراسة، الرجل جلس بحسب مصادر داخل النادي لساعات طويلة أمام الشاشات، يعيد اللقطات، يوقفها، يعيدها، يدوّن ملاحظات بخط يده، لم يكن يبحث فقط عن نقاط ضعف.
التحول من خانة “المدرب الواعد” إلى خانة “المُعلّم”
كان ماريسكا يبحث عن طريقة لمنع باريس من لعب لعبته، حين جاءت المباراة، كان كل شيء واضحًا، لم يكن تشيلسي يلعب برد فعل، بل بفعل، فرض ماريسكا الإيقاع، سرّع اللعب حين أراد، أبطأه حين احتاج، وعزل محاور باريس بطريقة جعلت الاستحواذ يتحول من سلاح قاتل إلى عبء ثقيل عليهم.
وفاز تشيلسي فوزًا تكتيكيًا مكتمل الأركان، ليس فقط في النتيجة، بل في الرسالة، فوز جعله يقف على منصة العالم متوجًا بلقب كأس العالم للأندية، وجعل اسمه يخرج من خانة “المدرب الواعد” إلى خانة “المُعلّم”.
تلك الليلة لم تكن مجرد مباراة.. كانت ليلة الميلاد الحقيقي لإنزو ماريسكا، الليلة التي كسرت حاجز الشك، وبدأ معها المدرب الإيطالي يفرض وجوده على الخريطة الكروية، كانت قبل برشلونة، قبل كل شيء، بداية قصة مدرب لا يخشى الكبار، لأنه يعرف كيف يسقطهم.
الخصم تغيّر.. لكن ماريسكا لم يتغيّر
في مواجهة برشلونة، كان تشيلسي أمام اختبار مختلف تمامًا، برشلونة هذا لم يكن مجرد فريق كبير، بل فريق في قمة مستواه، يسجل بلا انقطاع منذ 52 مباراة، ويُعتبر واحدًا من أكثر الفرق استقرارًا وانسجامًا في أوروبا هذا الموسم، ومع ذلك، ظهر ماريسكا قبل اللقاء بنفس ثباته المعتاد، يطلق جملة قصيرة لكنها كافية لإشعال كل شيء:
سنهاجم برشلونة الليلة
لم يكن تصريحًا للاستهلاك الإعلامي، بل جزءًا من هوية هذا المدرب الذي لا يتراجع مهما كان حجم الخصم، دخل المباراة دون مهاجم صريح، ليس مغامرةً عشوائية، بل خطة محسوبة لإرباك منظومة فليك، التي تعتمد على المراقبة المباشرة والضغط الموجه، أراد ماريسكا أن يزيل من أمام برشلونة أي نقطة ثابتة، وأن يجعل دفاعهم وحارسهم في حالة ارتباك دائم، لا يعرفون من أين سيأتي التهديد.
وتحققت الفكرة بالكامل، تشيلسي فرض إيقاعه وجرّ برشلونة إلى مباراة لم يعتد خوضها، الضغط، التحولات، السرعة في بناء الهجمة.. كلها عناصر جعلت برشلونة يفقد هويته تدريجيًا. ومع استمرار التفوق التكتيكي، جاءت الضربة القاضية: برشلونة يخرج دون تسجيل لأول مرة منذ 52 مباراة.
تشيلسي يسجل ثلاثية تُعيد إلى الأذهان ثلاثية باريس أمام لويس إنريكي، بهذا الفوز، لم يكتفِ ماريسكا بالتغلب على فليك فحسب، بل قدّم رسالة واضحة: هو ليس مجرد مدرب صاعد.. بل مدرب قادر على الإطاحة بالكبار، والوقوف في صف واحد مع أفضل المدربين في العالم.
من باريس إلى برشلونة.. من إنريكي إلى فليك
قبل أسابيع فقط، صنع ماريسكا واحدة من أكثر الليالي إثارة في تاريخ تشيلسي الحديث، حين أسقط باريس سان جيرمان بثلاثية مُذلة على أرضه، في مواجهة لويس إنريكي نفسه.. المدرب الذي تُوّج بجائزة أفضل مدرب في العالم لموسم 2024/2025، ليلة حينها نظر العالم لماريسكا بدهشة: هل هو مجرد فلتة؟ هل هو انتصار استثنائي في يوم مثالي؟
لكن الليلة، جاء الرد النهائي أمس أمام هانز فليك، المصنف ثاني أفضل مدرب في العالم، أمام الرجل ذاته وبالسيناريو ذاته تقريبًا: سيطرة، ذكاء، وقراءة تتفوق على خصم يُعرف بخبرته ومرونته، مدربان من الأكثر تأثيرًا في الكرة الحديثة، مدربان صنعا هويات كروية واضحة، مدربان يقف خلفهما تاريخ طويل وبصمة فنية قوية ومع ذلك، وجدا نفسيهما أمام نفس الحقيقة: ماريسكا ليس مجرد مشروع مدرب.

تلك الانتصارات المتتالية على أسماء بهذا الوزن الثقيل أزاحت عنه كل التسميات القديمة لم يعد “الواعد”، ولا “المجتهد”، ولا “المتطور”، بل أصبح جزءًا من جيل جديد من المدربين الذين يقودون كرة القدم الحديثة نحو شكل مختلف: أكثر سرعة، أكثر تحكمًا، وأكثر ذكاءً، في ظرف أسابيع… تحوّل ماريسكا من اسم على الهامش، إلى مدرب يُحسب له حساب، ويُعد لمواجهته ألف خطة، فمن يهزم إنريكي ثم يُسقط فليك يصبح تلقائيًا أحد أعمدة المستقبل.
تواضع ماريسكا بعد ليلة ثلاثية لا تُنسى
في ليلة قد تُسجل كواحدة من أهم محطات موسم تشيلسي، خرج إنزو ماريسكا بتصريحات بدت وكأنها من مدرب شاهد مباراة مختلفة تمامًا عن الجميع، بينما احتفلت الجماهير بثلاثية مذهلة في شباك فريق لم يخرج بشباك نظيفة منذ 52 مباراة، وقف الرجل بهدوء وقال ببساطة:
هو فوز جيد.. ليس أكثر من ذلك
تصريح يبدو عادياً على السطح، لكنه يكشف عن شخصية مدرب لا ينجرف خلف الضجيج، مدرب يفضل أن يتحدث فعله لا لسانه، ويحوّل الانتصارات الكبيرة إلى خطوات في مشروع أوسع وأعمق، وعن برشلونة، اكتفى بجملة عابرة قالت الكثير خلف بساطتها:
برشلونة فريق يشعر بالراحة عندما يمتلك الكرة، لذلك حاولنا أن نحتفظ بها نحن
خلف هذه الجملة تختبئ خطة متكاملة: ماريسكا أراد أن ينزع عن برشلونة أهم جزء في هويته، يجرده من قوته ويجبره على لعب مباراة خارج منطقة الراحة، وهذا بالضبط ما حدث، ما قاد إلى سقوط فليك.

ماريسكا لم يعد مشروعًا.. بل أصبح حدثًا
لم يعد إنزو ماريسكا ذلك المدرب الواعد أو المشروع الذي قد يكون له مستقبل كبير… اليوم صار حدثًا كرويًا قائمًا بذاته، شخصية تحظى بالاحترام والاهتمام في كل مكان، لم يصعد سلّم النجومية بالضجيج أو التصريحات، بل باللعب والانضباط والشراسة التكتيكية، وبإدارة مباريات أمام كبار اللعبة وكأنها مغامرات محسوبة بدقة.
ماريسكا لم يصبح بارزًا لأنه واجه لويس إنريكي وهانز فليك، بل لأنه أسقطهما بالثلاثيات، مدربان يُعدّان من أعمدة كرة القدم الحديثة، وسقطا أمام رجل لم يكن أحد يضعه ضمن أفضل خمسة مدربين في أوروبا قبل أشهر فقط، اليوم، صار الحديث عنه كالكبار: كيف يفكر؟ كيف يحضّر؟ وكيف يجعل فريقه أخطر مما يبدو على الورق؟
لم يعد مجرد وعد، بل أوفى بكل كلمة، قال إنه سيمنع باريس من السيطرة، ففعل.. قال إنه سيهاجم برشلونة، فهاجم.. قال إنه سيبني فريقًا لا يخاف الكبار، وها هو تشيلسي تحت قيادته يثبت ذلك، ليلة الثلاثية أمام برشلونة لم تكن مجرد فوز كانت إعلانًا رسميًا، لحظة انتقال من الظل إلى الضوء، ولادة مدرب جديد من العيار الثقيل كأنه إعلان ببداية عهد جديد عنوانه.. إنزو ماريسكا.