أخبار الكرة الإيطاليةإنتر ميلانتقارير ومقالات خاصةأخبار

الكالتشيو بولي.. القضية التي لا تنتهي لكنها دمرت الكرة الإيطالية

قبل بداية الألفية وسنواتها الأولى، كان الدوري الإيطالي هو وجهة كرة القدم، وأبرز اللاعبين في العالم كانوا يتنافسون في “جنة كرة القدم” كما يُطلق عليها.

مر ربع قرن، وتراجع الدوري الإيطالي، ولم يعد كما كان، والسبب الأكبر والأهم في ذلك كان “الكالتشيو بولي“، قضية المراهنات الأكبر في تاريخ كرة القدم.

في صيف 2006، هزت الكرة الإيطالية واحدة من أكبر الفضائح في تاريخها، وأصبحت محور حديث وسائل الإعلام العالمية. هذه الفضيحة لم تكن مجرد قصة عن نتائج مباراة أو خطأ تحكيمي، بل كانت مؤامرة منظمة شملت كبار المسؤولين في أبرز أندية الدوري الإيطالي، وساهمت في الكشف عن هشاشة أنظمة الرقابة في كرة القدم الإيطالية.

كيف بدأت الكالتشيو بولي؟

مصطلح الكالتشيو بولي تم اختراعه من قبل الصحف الإيطالية، لكنه لا يوجد في اللغة أو في القوانين، وتم وضعه على أغلفة الصحف والمواقع ليصبح اللفظ الدارج للقضية.

انطلقت شرارة الكالتشيو بولي بعد تحقيقات الشرطة الإيطالية في شكاوى عن تلاعب محتمل في اختيار الحكام لمباريات الدوري الإيطالي، بهدف منح بعض الأندية ميزة غير عادلة. ركزت التحقيقات على مكالمات هاتفية مسجلة بين مسؤولين في أندية كبرى، تظهر محاولاتهم للتأثير على الاتحاد الإيطالي والحكام لضمان نتائج لصالح فرقهم.

أبرز الأندية المتورطة كانت يوفنتوس، ميلان، فيورنتينا، لاتسيو، وريجينا، وعلى رأسها يوفنتوس الذي كان يسعى لإحراز ألقاب الدوري المتتالية، ودفع بعض المسؤولين لاتخاذ طرق غير قانونية لتحقيق مصلحتهم، كما وصفت الصحافة في ذلك الوقت.

لوتشيانو مودجي - قضية الكالتشيو بولي - المصدر (Getty images)
لوتشيانو مودجي – قضية الكالتشيو بولي – المصدر (Getty images)

يوفنتوس ظالم أم مظلوم؟

في مايو 2006، بعد انتهاء الدوري وتحقيق يوفنتوس للقب المفضل له تاريخيًا، بدأت التحقيقات والاستماع للمتهمين بحكمة مدينة نابولي، تحقيقات حقيقية في شبكة كبرى للتلاعب بنتائج الكالتشيو.

في ذلك الوقت، كان المنتخب الإيطالي يسير نحو نهائي كأس العالم، الذي تحقق في النهاية على حساب فرنسا بركلات الترجيح، ولكن العودة إلى الديار كانت كارثية.

يوفنتوس كان المتضرر الأكبر، فقد هبط إلى الدرجة الثانية، وأُوقف مديره الرياضي لوتشيانو مودجي مدى الحياة عن ممارسة أي نشاط يتعلق بكرة القدم، وخصم 9 نقاط من البيانكونيري، والأكبر من ذلك هو سحب لقبي 2004-2005 و2005-2006 من السيدة العجوز.

جاء ذلك بعدما استخدم مودجي أرقام هواتف سويسرية لتجنّب مراقبة السلطات الإيطالية للمكالمات التي دارت بينه وبين مسؤولي الاتحاد الإيطالي، والتي كان فحواها اختيار الحكّام الذين يفضّلون الأندية المتواطئة للإشراف على المباريات، بحيث كانت الأندية تختار الحكّام المفضلين لديها.

شارك في ذلك كل من ميلان وريجينا وفيورنتينا، وكذلك لاتسيو، لتظهر التسجيلات في وقت لاحق للعلن وتثبت الإدانة القطعية لمودجي والأندية الأخرى، الأمر الذي دعا المدّعي العام للاتحاد الرياضي الإيطالي للمطالبة بإنزال عقوبات شديدة الصرامة بحق الأندية الأربعة التي ثبت تورّطها.

عقوبات ميلان اقتصرت على خصم 8 نقاط، إضافة إلى 30 نقطة من دوري الموسم الذي سبق الفضيحة (ليتغير بذلك موقعه في ترتيب الدوري السابق)، مع حرمانه من الجمهور لمباراة في ملعبه.

بينما عوقب ريجينا بخصم 9 نقاط وغرامة 20 ألف يورو، وفيورنتينا بخصم 15 نقطة ومباراتين دون جمهور، والحرمان من المشاركة في دوري أبطال أوروبا، أما لاتسيو فقد تمّ خصم 3 نقاط منه، وحرمانه من جمهوره لمباراتين ومن المشاركة في الدوري الأوروبي.

لا شك في أن يوفنتوس كان الأكثر تضررًا، فقد رحل عنه أبرز لاعبيه مثل زلاتان إبراهيموفيتش إلى إنتر، وباتريك فييرا، وليليان تورام، وجيانلوكا زامبروتا، وإيمرسون، من بين آخرين.

زلاتان إبراهيموفيتش - يوفنتوس - المصدر (Getty images)
زلاتان إبراهيموفيتش – يوفنتوس – المصدر (Getty images)

في 2015، وبعد 9 سنوات من فضيحة “الكالتشيو بولي”، قررت المحكمة الرياضية الإيطالية تبرئة لوتشيانو مودجي من تهمة الاحتيال الرياضي، مع الإبقاء على حكم عدم ممارسته أي نشاط يتعلق بكرة القدم مدى الحياة.

وعلق مودجي على قرار المحكمة قائلاً: “كانت مزحة مدتها تسع سنوات، عشنا أكذوبة لمدة تسع سنوات، خلال السنوات الماضية قد ثبت أن الدوري منتظم والبلاغات غير صحيحة وتعيينات الحكام كانت دون تدخلات أو تلاعب في النتائج”.

سرعة إصدار الحكم

لم تستغرق المحكمة أكثر من أسبوعين لإصدار الحكم، رغم أن القضية كانت ضخمة ومعقدة، مليئة بالتفاصيل والشهادات، وهو ما يعكس سرعة غير معتادة في التعامل مع قضايا بهذا الحجم.

أصدر الحكم بإيقاف مودجي مدى الحياة عن ممارسة كرة القدم، بينما تراوحت عقوبات باقي المتورطين بين خمس سنوات وثلاثة أشهر، شملت حكامًا سابقين ومسؤولين في الاتحاد الإيطالي، على رأسهم فرانكو كارارو رئيس الاتحاد في ذلك الوقت، وأدريانو جالياني رئيس رابطة الدوري الإيطالي.

القرار جاء كصفعة لكل من توقع أن تستمر الإجراءات شهورًا أو سنوات، ما بين أقاويل حول أن العدالة كانت حاضرة وبقوة دون أي تأجيل أو تردد، وأخرى تشير إلى أنها مؤامرة ضد الأندية المتضررة، وفي مقدمتهم يوفنتوس.

قضية الكالتشيو بولي - المصدر (Getty images)
قضية الكالتشيو بولي – المصدر (Getty images)

حقيقة الأمر أنه لا توجد أي رشاوى في القضية، ولم يثبت أي ملف ذلك، ولكن التسريبات كانت لمكالمات لوتشيانو مودجي دون غيره من المتورطين في القضية، باستثناء أدريانو جالياني.

جالياني نفسه، الذي كان مديرًا تنفيذيًا لميلان ورئيس رابطة الكالتشيو، تم إيقافه وعاد ومارس عمله بعد سنوات قليلة، لكن مودجي لا يزال بعيدًا.

لم تكشف التحقيقات عن وجود رشاوى للحكام، لكنها أظهرت محاولات الأندية لتعيين حكام “محبوبين لدى رؤساء الأندية” أو تغيير أسماء الحكام المكلفين بإدارة مباريات فرقهم مثل يوفنتوس، لاتسيو، ميلان، فيورنتينا، وريجينا.

ورغم أن القضية لم تصل إلى حد الرشوة المباشرة، إلا أنها شكلت فضيحة كبرى اهتزت داخل جدران الاتحاد الإيطالي.

لوتشيانو مودجي - قضية الكالتشيو بولي - المصدر (Getty images)
لوتشيانو مودجي – قضية الكالتشيو بولي – المصدر (Getty images)

إلى جانب ذلك، شملت التحقيقات مجموعة أخرى من المكالمات المسربة التي ورطت أدريانو جالياني المدير التنفيذي لميلان ورئيس رابطة الدوري الإيطالي آنذاك، وكلاوديو لوتيتو رئيس لاتسيو، بالإضافة إلى رئيس لجنة الحكام الإيطالية حينها باولو بيرجامو و16 اسمًا آخر.

تناولت هذه المكالمات الحديث حول الحكام ومحاولات اختيار أسماء محددة لإدارة مباريات الدوري.

تسريبات لوتشيانو مودجي في قضية الكالتشيو بولي

تُظهر إحدى المكالمات من بين الـ16 التي تم تسجيلها للوتشيانو مودجي، المدير الرياضي ليوفنتوس، تواصله مع بييرلويجي بايريتو، النائب الإيطالي لرئيس لجنة الاتحاد الأوروبي للحكام، وأحد المتورطين في القضية، حسب ما أكشفت صحيفة “لاجازيتا ديلو سبورت” الإيطالية، كما يلي:

مودجي استفسر عن حكم معين قائلًا:

“ما هذا الحكم الذي أرسلته لنا؟”

رد بايريتو:

“فندل؟ هو من الصفوة.”

أبدى مودجي اعتراضه على بعض القرارات التحكيمية، خاصة هدف ميكولي، فقال:

“أعلم، لكن هدف ميكولي كان صحيحًا.”

رد بايريتو سريعًا: “لا.”

حاول مودجي النقاش عن سبب رفض الهدف وتأثير طول مدة المباراة، فقال:

“لم لا؟ طول مدة المباراة كان فندل يسبب لنا المشاكل.”

علق بايريتو: “لم يعجبني أداء مساعد الراية… كنت أفكر بحكم الراية الذي أوقف محاولة تريزيجيه بالتسلل.”

انتقل مودجي للحديث عن تعيين الحكام، وقال: “في ميسينا أرسل لنا كوسولو وباتيجليا.”

“مع كاسارا؟”

“نعم.”

وفي ليفورنو: “روكي؟”

“نعم، سنرسله.”

أما في ميلان: “نريد بييري من فضلك.”

“سنقوم بتوظيفهم للمباراة لاحقًا.”

حيثيات الحكم

حتى وقتنا هذا، ونحن نقترب من 20 عامًا على قضية الكالتشيو بولي، لم يصدر أي حكم يخص التلاعب في النتائج، ولكن جميع الأحكام كانت تتعلق بـ “اتصالات وتنسيق وضع خارطة الحكام”، حيث تفضل بعض الأندية بعض الحكام، وتناقشهم في القرار بعد اتخاذه، والإشارة لبعض اللاعبين المعروف عنهم الخشونة تجاه الخصوم.

في 2011، صدرت أحكام كانت جزءًا من تداعيات القضية، وشملت عقوبات قاسية، مثل حظر بعض المسؤولين والحكام من ممارسة كرة القدم، وأكدت المحكمة على أنه لا يوجد أي حكم حول التلاعب في النتائج.

لماذا حدث ذلك؟

قد يطرح القارئ سؤالًا: “لماذا حدث ذلك ما دام لم تدن المحكمة أحدًا في التلاعب بالنتائج، أو يتعرض أي مسؤول للحبس على أقل تقدير؟”

الإجابة ببساطة تكمن في سرعة اتخاذ القرار، فقد كانت البداية من ذهاب بعض الأندية للاتحاد الإيطالي وإخبارهم بالكلمات المُسربة والتنسيق بين الأندية ولجنة الحكام.

تجاهل الاتحاد الإيطالي والمحكمة الرياضية الإيطالية في البداية ذلك الأمر، ولكن ذهبت الأندية بعد ذلك للصحافة، التي كان لها شأن كبير وقوة بين الجماهير.

لوتشيانو مودجي - قضية الكالتشيو بولي - المصدر (Getty images)
لوتشيانو مودجي – قضية الكالتشيو بولي – المصدر (Getty images)

مع انتشار التقارير والتسريبات، تم فتح التحقيق، وفُسر بعد ذلك أن المكالمات كانت توضح عدم حسن النوايا، وذلك لأن بطاقات هواتف تم شراؤها من سويسرا وسلوفينيا وليشتنشتاين، ووزعت على الحكام والمسؤولين ورؤساء الأندية في إيطاليا.

لوتشيانو مودجي هو من عوقب باعتباره الرجل الذي دبر كل شيء من البداية، ويوفنتوس الذي كان يترأسه مودجي، هبط للدرجة الثانية وسُلب منه لقب 2005 مع عدم وجود بطل، ومنح إنتر لقب 2006.

في 2011 وصلت تسجيلات جديدة للمحكمة، يتورط فيها إنتر ميلان، ولكن لم يتم الاهتمام بها وتجاهلتها المحكمة، بسبب ما حدث بعد 2006 للكرة الإيطالية وإغلاق القضية بعد ذلك.

جماهير إنتر ميلان تحتفل بهبوط يوفنتوس - المصدر (Getty images)
جماهير إنتر ميلان تحتفل بهبوط يوفنتوس – المصدر (Getty images)

وهذا يفسر سرعة اتخاذ القرار والحكم بدون الانتظار للحصول على أكبر قدر من المعلومات، خاصة مع انتشار تقارير حول ضغط الاتحاد الأوروبي في 2006 على إيطاليا بأن أمامهم شهرين لحسم الأمور، في ظل ضغط الإعلام الهائل في ذلك الوقت.

حتى أنه لم يتم إدانة أي حكم في القضية لوقتنا هذا، ولكن رغم ذلك فقد تضرر الجميع بعد ذلك، واستفاد يوفنتوس.

بالفعل نجح إنتر ميلان كأكثر الأندية، مع بعض التقارير حول تورط موراتي مالك النادي، في كشف التسريبات لمعاقبة البيانكونيري، لكنه بالفعل استفاد بالفوز بالثلاثية مع مورينيو.

بالإضافة إلى ذلك، ميلان كان بطل دوري أبطال أوروبا 2007 رغم أنه كان معاقبًا في الدوري، ومنذ ذلك الحين اختفى قطبا ميلانو عندما عاد يوفنتوس.

يوفنتوس عاد لينتقم

هبط يوفنتوس للدرجة الثانية كما أكدنا، وتم خصم 9 نقاط من رصيده، وبطبيعة الحال حتى مع عودته للدرجة الأولى في 2007-2008، عانى حتى استعاد بريقه.

غيّر يوفنتوس من سياسة النادي بالكامل، مع بناء استاد وانفاقات قليلة على اللاعبين والتعاقدات المجانية، وكذلك التعاقد مع أنطونيو كونتي، قائد الفريق السابق، في مقعد المدير الفني.

سيطر يوفنتوس على لقب الدوري الإيطالي، بعدما حقق الأول في موسم 2011-2012، الأول له على ملعبه الجديد “يوفنتوس أرينا” في تورينو.

يوفنتوس - المصدر (Getty images)
يوفنتوس – المصدر (Getty images)

حتى مع رحيل كونتي وتعاقد النادي مع أليجري، استمرت السيطرة على لقب الدوري الإيطالي، بينما كان ميلان وإنتر في المنطقة الدافئة ويحاول كلٌ منهما العودة إلى أوروبا.

ظلت سيطرة يوفنتوس على الدوري 9 سنوات على التوالي، مع الفوز بالكأس والسوبر كأكثر الأندية تتويجًا بجميع البطولات المحلية، والوصول لنهائي دوري أبطال أوروبا مرتين.

وصل يوفنتوس حتى التعاقد مع كريستيانو رونالدو، أفضل لاعب في العالم خلال ذلك الوقت، مع إنفاقات مثل صفقة جونزالو هيجواين القياسية.

كل شيء تغيّر في يوفنتوس بعد الكالتشيو بولي حتى 2020، والمشاكل التي تسبب فيها فيروس كورونا.

هل دمرت الكالتشيو بولي الكرة الإيطالية؟

بالنظر لما حدث بعد تلك القضية، سنجد أن السيطرة أصبحت بين إنجلترا وإسبانيا على أفضل النجوم في العالم، وكذلك البطولات القارية.

إيطاليا منذ قضية الكالتشيو بولي حصلت على دوري أبطال أوروبا مرتين فقط، والدوري الأوروبي مرة من جانب روما، بينما فشلت جميع الأندية الأخرى في المباريات النهائية للبطولات الكبرى.

على مستوى المنتخب، فشل الأزوري في الوصول إلى كأس العالم آخر نسختين، وقد يتكرر الأمر في النسخة القادمة 2022.

منتخب إيطاليا - المصدر: Gettyimages
منتخب إيطاليا – المصدر: Gettyimages

كل شيء تراجع للخلف، على مستوى البث الفضائي والعوائد، كذلك الأموال التي تُضخ على الكرة الإيطالية، والفشل المتتالي للأندية، حتى المدربين يذهبون إلى الخارج لعدم قدرتهم على تطبيق الأفكار في الكالتشيو.

والطريف في الأمر، أنه حتى الآن، لا تزال قضية الكالتشيو بولي مستمرة في الصحف ووسائل الإعلام، ولا يزال لوتشيانو مودجي يرى بأنه لم يرتكب أي خطأ، ومن حين لآخر، تظهر دلائل جديدة، لكن دون أي قرار، مثل الذي اتخذ في شهر ونصف فقط.

نادر شبانة

صحفي مصري منذ عام 2012، عملت بالعديد من القنوات التلفزيونية، أقوم بتقديم محتوى عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أهتم بكرة القدم العالمية والإيطالية بشكل أكبر، أجيد كتابة القصص في كرة القدم والتحليلات للمباريات، وترجمة الأخبار ومتابعة الأحداث لحظة بلحظة