الحقيقة المخبأة وراء “كرم هالاند”.. الوجبات التي لم تُسدَّد أبدًا!
في عالمٍ أنهكته الفضائح والصراعات، يبحث الناس دائمًا عن بطلٍ يرمّم إيمانهم بالخير؛ نميل بالفطرة إلى تصديق القصص التي تذكّرنا بأن الإنسانية ما زالت بخير — نجمٌ شهير يتبرع، أو لاعب كرة يطعم الجياع، أو اسمٌ كبير يختار أن يفعل الصواب بصمت.
ولعل هذا الشغف الجماعي بالبطولات الهادئة هو ما جعل قصة النرويجي إيرلينج هالاند نجم نادي مانشستر سيتي، الأخيرة تنتشر كالنار في الهشيم، والتي تٌفيد بتبرعه لدفع مبالغ مالية ضخمة لبعض المدارس لسداد ديون وجبات الطعام الخاصة بالأطفال.
جاء ذلك تزامنًا مع الأمسية المشتعلة بالأحداث داخل وخارج المستطيل الأخضر، حين فاز منتخب النرويج بخماسية نظيفة على الكيان الصهيوني في تصفيات كأس العالم، مساء السبت 11 أكتوبر 2025، في مباراة كان بطلها الأبرز هالاند الذي وقّع على هاتريك تاريخي، ليرسّخ مكانته كأحد أسرع اللاعبين وصولًا إلى 50 هدفًا دوليًا.

الانتصار الكبير لم يكن مجرد تفوّق رياضي، بل تحوّل إلى حدثٍ يحمل أبعادًا سياسية واجتماعية بعد أن شهدت العاصمة أوسلو احتجاجات ضخمة مؤيدة لفلسطين، بالقرب من ملعب أوليفول حيث أقيمت المباراة، بالإضافة إلى تبرع منتخب النرويج بجميع أموال اللقاء لدعم شعب قطاع غزة المحتل، نظرًا لما يمر به بسبب الحرب الغاشمة التي يشنها الكيان الصهيوني.
قصة الديون التي لم تُسدَّد: حين تحوّل هالاند إلى بطلٍ من خيال
عقب نهاية المباراة، تناقلت مئات الصفحات عبر “فيس بوك” و“إكس” قصة مؤثرة تزعم أن هالاند، سدد سرًا ديون وجبات مدرسية بقيمة 654 ألف جنيه إسترليني تخص 85 مدرسة بريطانية، أُرفقت القصة بصور أطفال يبتسمون وإيصالات كُتب أسفلها “لن تأكل وحدك أبدًا”، ليبدو وكأنه مشهد من فيلم مثالي عن نجمٍ قرر أن يرد الجميل للمجتمع بصمت.
لكن الحقيقة كانت أكثر بساطة — وأكثر قسوة: لا يوجد دليل واحد على أن شيئًا من ذلك حدث!
🚨💙 في حركة مفاجئة ومؤثرة، هالاند سدد سرًّا ديون وجبات مدرسية بقيمة 654 ألف جنيه إسترليني لـ 85 مدرسة في بريطانيا 🍽️
مع كل إيصال، كتب هالاند رسائل شخصية للأطفال: "لن تتناول طعامك وحدك أبدًا." و"احلم كبيرًا، فالعالم ملكك." 💫 pic.twitter.com/EDcdPQS2yi— شــبكه السيتي 🛥 (@MancityNetwork) October 11, 2025
لم تنشر أي وسيلة إعلامية موثوقة أي تقرير حول الواقعة، كذلك لم يُصدر مانشستر سيتي بيانًا، ولم يُعرف عن اللاعب أو وكيله أي تصريح حول تبرعات مشابهة، ولا حتى المُحاطون به، حتى الجهات التعليمية في بريطانيا لم تُسجّل أي تحويل مالي بهذه القيمة؛ كل ما وُجد هو منشور مجهول المصدر تداوله المستخدمون بلا تحقق، ليتحوّل إلى “حقيقة افتراضية” في ساعات.
جذور القصة: تشابه أسماء “هالاند” صنع العاصفة
بعد ساعات من تفنيد القصة، تبيّن أن أصلها يعود إلى خلطٍ قديم بين اسم هالاند (اللاعب) واسمٍ مشابه في قصة أمريكية حدثت عام 2020 خلال فترة تفشي وباء فيروس كورونا – كوفيد 19، عندما طُرحت مبادرة سياسية تتعلق بديون الوجبات المدرسية تحت اسم “Deb Haaland Bill”، نسبة إلى النائبة الأمريكية “ديب هالاند”، الاسم وحده كان كافيًا ليُعيد تشكيل الحكاية داخل أذهان المستخدمين — ومع جرعة عاطفة وشيء من التجميل، وُلدت قصة جديدة تمامًا، لا وجود لها خارج الإنترنت.
Across the country, kids are denied hot lunches or even chased by debt collectors because they can't pay for school meals.
— Rep. Ilhan Omar (@Ilhan) October 3, 2025
I’m reintroducing the No Shame at School Act with @SenTinaSmith to ensure no child is punished for school meal debt.
My op-ed: https://t.co/kVJyQleYnM
الجدير بالذكر أن تلك القصة لم تخرج لأول مرة في الأيام الماضية فقط، بل سبق وأن ارتبطت باللاعب الهولندي ماتياس دي ليخت نجم مانشستر يونايتد، حين انتشرت نفس الصورة على مواقع التواصل بزعم أنه هو من سدّد ديون الوجبات المدرسية، قبل أن يتضح أن الواقعة الأصلية تعود إلى ويلز وأنها لا تخص أي لاعب كرة قدم على الإطلاق.
لكن تصحيح القصة لا يعني أبدًا أن هالاند شخص سيء أو بعيد عن الخير، فالنجم النرويجي معروف أصلًا بمساهماته الإنسانية ودعمه للعديد من المبادرات الخيرية، سواء داخل بلده أو خارجه، إذ تبرع في أكثر من مناسبة لمستشفيات الأطفال ومراكز الشباب في مانشستر وأوسلو، وحرص دائمًا على إبقاء تلك الأفعال بعيدة عن الأضواء.
وجبة من الوهم: كيف صدّق العالم أن هالاند أطعم أطفال بريطانيا؟
لماذا نصدق ما نريد أن نصدق؟ لأننا ببساطة نحتاج لذلك؛ العالم الرقمي مليء بالكراهية والتنافس، لذلك عندما تظهر قصة عن لاعبٍ يعيد إنسانية اللعبة إلى الواجهة، نتلقفها كجرعة أمل، نريد أن نصدق أن الشهرة لا تُفسد القلب، وأن الأبطال الذين يسجلون الأهداف يمكن أن يسددوا أيضًا فواتير الآخرين، إنها ليست سذاجة بقدر ما هي رغبة بشرية عميقة في تصديق الخير، حتى لو جاء من خيال.
لم يدفع هالاند 654 ألف جنيه إسترليني، ولم يترك رسائل أسفل الإيصالات، ولم تبكِ المدارس البريطانية امتنانًا له، كل ما حدث أن الإنترنت اخترع بطلًا جديدًا ليشبع عطشه إلى الأمل، لكن البطولة الحقيقية لا تُقاس بعدد المشاركات ولا بمبالغ مزعومة، بل بالصدق.
وربما الدرس الأهم هنا هو أن أجمل القصص ليست دائمًا أصدقها، وأن الصحافة حين تدافع عن الحقيقة — حتى ضد قصة جميلة — تظل تمارس أنبل أدوارها.